المحروس: الرواية مسكونة بمتعة البحث روائي وفوتوغرافي بحريني يجد أن المشهد الأدبي في بلاده "بطيء الحركة وإنتاجه قليل"
صحيفة (الغد)-الأردن - السبت 21 تشرين ثاني 2009م حاورته: عزيزة علي
عمان - يُفَضِّلُ الروائي البحريني حسين المحروس الرواية على القصة، ويجدُ فيها "فسحات كبيرة تتابع الشخوص في السرِّ والعلن"، وأنها مسكونة بمتعة البحث الطويل والمتنوع.
ويُحيل كثرة التفاصيل في رواياته، إلى عمله في التصوير الفوتوغرافي. فيقول:"حركة الكاميرا مليمترا واحدا يعني تفاصيل كثيرة مختلفة، وصورة جديدة".
والمحروس، روائي وفوتوغرافي، يحمل درجة الماجستير في اللغة العربية (لغات) في جامعة البحرين العام 2000 في تحقيق المخطوطات. وأقام معرض "سوق الجنّة"، تصوير فوتوغرافي ونصوص لابن عربي، البحرين، مركز الفنون، وصدر له: كتاب إذاعة البحرين.. سيرة الكلام، ورواية "حوّام" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت العام 2008، ورواية "قندة" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت 2006، والمجموعة القصصية "ضريح الماء" عن مشروع النشر المشترك بوزارة الإعلام.
ـ روايتك الأولى "قندة": سيرة مكان وإنسان، خصوصا بلدة "النعيم"؛ كيف تشكلت خيوطها الأولى لديك؟ الحديث عن "قندة" طويل. أراها سيرة مكان قابل للاتساع كلما اقتربنا منه وطرحنا عليه الأسئلة. هي سيرة المكان كلّه، وسيرة تشكلات "عباس" منذ أن ألبسته أمه تاريخه لأمة حرب. لذا كلما عدت إلى مشهد فيها أخذني إلى مشاهد عدة العلاقات فيها قد تكون من الخفاء لا ترى حتى تقتربي منها. مثل سير الحب، سير التدين، سير رجال الدين، سير "الزقرتيين" وتعايش الناس معهم دون أن يلتفتوا إلى طبائعهم، وقوانينهم، وحيواتهم، سير التحولات الفكرية والاقتصادية، والقلافين "صنّاع السفن" يملكون الرأي في الحيّ لأنهم يملكون الاقتصاد. ربات البيوت المغلوبات على أمرهن. أزيائهن وأحاديثهن، وبساطتهن، وتغييب آرائهن، ودورهن الواضح في هندسة الزيجات، وتحسين رجال للزواج وذم آخرين. كنت أراقب كلّ ذلك بشكل طبيعي جداً، وأدخره في ذاكرتي وشخصيتي، فلما حان حينه ظهر في شكل نص روائي تقوم فيه العلاقات على نحو طبيعي، لكنه بعيد قليلا عن القصة التقليدية ذات السلسلة الواضحة جدا للقارئ.
- تتطرق إلى قضايا اجتماعية مثيرة للجدل يُعد تناولها محرّماً؟ ألا يخيفك التطرق إلى مثل تلك القضايا؟ وما هي حدود الحرية لديك، وهل تخشى الرقيب؟ لا، يخيفني أكثر أن تظل تلك القضايا محرّمة ومخفيّة؟ وإذا عرفت مصدر الخوف جيداً، واقتربت من فهم ما يصدر عنه التخويف لن أكترث. ردّة الفعل الأولى، ربما، هي المخيفة، وما بعد ذلك لا. عند الكتابة أمتلك جرأة غريبة لا أجدها في طقس آخر. لا أجدها في التصوير مثلاً. أصبح جباناً حين أحمل الكاميرا، وأتردد كثيراً في إخراجها، أو تصويبها نحو شيء ما. ربما لا أغضّ بصري لكني لا أعرف ردّة الفعل فأخاف. في الكتابة لا يحدث ذلك. في الكتابة لا أجيد الرقابة على نفسي، ولا على كتابتي ولا أكترث. لكن لا تسأليني كيف يحدث ذلك! أنا أحفظ كلّ ردّات الفعل من التصوير الفوتوغرافي، لكني لا أحفظ غير القليل والنادر من ردّات الفعل العنيفة ضد الكتابة.
- كيف تلتقط تفاصيل رواياتك، وما هي الصورة التي تستفزك للكتابة؟ أنا نفسي لا أعرف كيف يحدث ذلك! تفاصيل الروايات؟.. ربّما جاءت من التصوير الفوتوغرفي. فحركة الكاميرا ملليمتر واحد يعني تفاصيل كثيرة مختلفة. أي صورة جديدة. في التصوير لا شيء يغادر مهما كان صغيراً. وربّما جاء ذلك من قناعة لديّ:"لا شيءَ عاديّاً" التي تدعوني لفحص كلّ شيء والترقب حين النظر إليه بمفاجأة ولو كانت صغيرة. وربّما من الطفل الذي اعتاد تقليب حجارة الساحل ليفحص العالم الذي يعيش تحتها. وربّما للعبة ألعبها كلّما دخلني ملل أو ضيق، أو كنت في حصار لا حيلة لي في مغادرته فأتسلى حينها بالنظر في كلّ شيء:الأحذية المتسخة، الأظافر غير المقلمة، بقع العطر في الملابس، درجات ألوان الجلد في يد امرأة. أمور كثيرة تتولّد حينها ويصعب تعدادها هنا وحصرها. كلّ شيء في المكان يستفزني.. كلّ شيء في الإنسان "حتى لفتة الجيد واهتزاز النهود".. كل شيء عفوي.. كل شيء متصنع أيضاً. كل شيء تطاله العدسة. ففي رأيي لا يمكن التمكن من شيء ما لم نقبض على تفاصيله الصغيرة. الشيطان يكمن في التفاصيل، لأنّه يحاول الاقتراب من السرّ.
- أقمت العديد من المعارض للصور الفوتوغرافية. ما العلاقة بين الصورة الفوتوغرافية والأدب، وبماذا خدمتك الصورة في النص الأدبي؟ جزء من الجواب على هذا السؤال ربما في الجواب السابق، أعني ما تمنحني الصورة وتجود به للتمكّن من التفاصيل. بالصورة أشعر بأني قريب من الشخوص عبر تخيّل ورسم شكل وجوههم، وأجسادهم وتشريحها بيسر. الصورة تمنح الكاتب أرشيفاً غنياً للصور التي تكون عليها الأمكنة، وتساهم في تقوية الذاكرة وحفظ الشكل منذ النظر إليه مرّة واحدة. في "حوام" رأيت الأماكن كلّها صوراً فوتوغرافية اعتمدت عليها في الوصف وتتبع الأحداث فيها. صور فوتوغرافية في رأسي مدتني بالتفاصيل. لكن لا يظن أحد أن الصورة هي كلّ شيء هنا.. ما أردت قوله إنها مداد ضوئي في غاية الأهمية. بصراحة لا أتخيل روائياً لا يُعمل بصره وخاطره في الصورة. وما لم يفعل ذلك عليه أن لا يكتب رواية. سيكون عمله ناقصاً البصر!
ـ نراك مهجوسا في التفاصيل، ماذا تجد فيها؟ الأعمى وحده يتحسس الأشياء الكبيرة. أنا أحبّ التفاصيل! ترينا ما لا نراه في الأشياء الكبيرة. لدي نزعة كبيرة نحو معرفة الأمور الدقيقة في كلّ شيء لقناعة لدي بأنّه لا يمكن التمكن من شيء دون الإحاطة بهذه التفاصيل الصغيرة الدقيقة. قد أوقف قراءة كتاب لأني لم أعرف معنى مصطلح فيه. وما لم أعرفه يظل بالي مشوشاً. وقد أقوم بخطوات وإجراءات واسعة ليهدأ بالي حيال ذلك.
- ما الأثر الذي تركه والدك عليك، وهو أحد مؤسسي "نادي النعيم الثقافي" في فترة الخمسينيات من القرن الماضي؟ أبي منجم ذكريات يتسع. دوره في الحيّ وتشكلاته غير عادية. لم ينتمِ إلى جهة أيدولوجية أو فكرية معينة. يترك مسافة واضحة بينه وبين الانتماءات في تلك الفترة لمن هم حوله. لا يجعل مواقفه قابلة لأكثر من تفسير. شارك في تأسيس نادي النعيم الثقافي في الخمسينيات ولم يكترث لردة الفعل من الدينيين في الحّي. علّم نفسه القراءة والكتابة. كان يحرضنا على القراءة. يختار القصص ذات الأغلفة الملونة من مكتبة النادي لنقرأها. يحب العمل ولا يؤمن بالتخصص في الفن إلا نادراً. فهو النجار الحاذق المتمكن، منسق خطوط الكهرباء المخفية في بيتنا، يراقب الصباغ وخطواته فإذا احتاجت غرفة في بيتنا لتجديد الطلاء فعل ذلك بنفسه بشكل محترف. هكذا فعل أيضا مع السباكة وغيرها. معلم ماهر لإدارة الثقة في النفس، والشجاعة، والإصغاء لساعات القلب أيضاً. هو غالباً ما يحاول أن يبحث لنا عن شيء مختلف. فعلى الرغم من قرب مدرستين ابتدائيتين من بيتنا: الأولى تبعد ثلاث دقائق، والثانية خمس دقائق، على الرغم من ذلك أخذنا إلى مدرسة تبعد عن الحي كيلومترا ونصفا نقطعها كل يوم مرتين مشياً على الأقدام، بها التلاميذ مذاهب واتجاهات. ولم يكن في مدرسة الحي غير اتجاه واحد. وهذه العلاقة الجيدة بيني وبين أصدقاء من مذاهب وطوائف واتجاهات مختلفة يرجع الفضل فيها إلى الطفولة التي شاءها أبي لي ولثلاثة من إخوتي: أن نرى شيئاً مختلفاً، أن نكتشف أننا لسنا وحدنا في هذا العالم، وأنّ هناك أماكن أخرى غير حيّنا "النعيم".
- المشهد الروائي في البحرين كيف يراه المحروس؟ لست متابعاً جيداً للمشهد الروائي مثل متابعتي للمشهد البصري الفوتوغرافي في البحرين. قرأت القليل من الروايات البحرينية لكن يهمني منها نصوص أمين صالح وفريد رمضان ومحمد عبد الملك وهي تجارب عميقة وشاعرية أيضاً لم أستطع إكمال بعض النصوص لروائيين وقصاصين آخرين لأسباب كثيرة في مقدمتها اللغة. المشهد بطيء الحركة، والإنتاج قليل جداً.
- بدأت بكتابة القصة القصيرة ثم تحولت إلى الرواية، ما الذي منحتك إياه الرواية، ولم تجده في القصة؟ ليس ثمّة سبب واضح أكثر من دفقة النص في نفوسنا. كلاهما متعب والنص المكثف القصير مؤذ جداً. في الرواية فسحات كبيرة وعديدة تكاد تتابع شخوصك في كلّ شيء في السرّ والعلن. في الرواية بحث طويل متنوع. ليس هو تحول كما ذكرت فلو احتجت لكتابة نص قصير سأفعل.
http://www.alghad.com/?news=464419 |