
ليس هناك خلاف في أهمية صناعة مؤسستين تعليميتين دينيتين: تعتمد إحداهما على المنهج التقليدي القديم نفسه، إلى جانب مؤسسةٍ أخرى تعتمد المنهج الحديث بمستويات علمية، وتدرّج مماثل لما هو معتمد في المؤسسات التعليمية المدنية كالجامعات ومعاهد الدراسات العليا، فتودي كلّ واحدة منهما وظيفة مختلفة، وتستوعب الميول الخاصة عند الطالب مع حساب المستوى العمري ودرجة الذكاء والحفظ وملكة التحليل والربط. ولكن الخلاف يكمن خلف جدل وظيفة تحقيق الأهداف والغايات والمقاصد ومستوى مخرجات ونتائج مهمة دينية وتربوية خطيرة وحساسة جداً يستوجب جعلها الرأس المفكر والقائد والزعيم والموجِّه والمصوِّب لحركة الأمة.
فلو قُرِّرت مناهج تعليم حديثة في كلا المؤسستين التعليميتين، فإن فرزاً مهماً سيحدث بين المواد المعتمدة كعلوم وقواعد أساسية يجب على الطالب اجتياز مراحلها الدراسية، وبين علوم أساسية يتوجّب على الطالب دراستها والتفوق فيها من بعد انتهائه من تعلم القواعد الأساسية. لأن منهج المؤسسة التعليمية الدينية في حال تضخم دائم، حيث حُشرت المواد الأساسية التي تمثل قواعد الدراسة الدينية، في عرض مواد أساسية يستوجب على الطالب متابعة دراستها بعد الانتهاء من التمكن من القواعد والأساسيات العلمية. فهناك مادة الفلسفة والعرفان والمقارنات الأصولية والفقهية والمنطق والنحل والملل، التي تحتاج في معرفتها وتعليمها إلى قواعد ومقدمات، يمكن أن يلج فيها الطالب بعد انتهائه من دراسة القواعد والأسس العلمية الدراسية بجهدٍ ذاتي أو بمساعدة المدرسين في أوقات وظروف خاصة. فهذا التضخم والتكديس للمواد في مراحل المقدمات أو السطوح إذا ما رافقه شدة التعقيد في عبارات وألفاظ المؤلفات المعتمدة في منهج الدراسة، إضافة إلى اختصار شديد بين الأسطر ملزم لتفكيك مدرس بارع، وذهن استيعابي متين لطالب؛ فإن ذلك مما يساهم في تقليل النتائج الإيجابية المرادة من الدراسة الدينية.
التمايز والتطوّر الحضاري
وإذا ما تأكد بأن مؤلف «المنطق» الذي أعده الشيخ المظفر للدراسة، أصبح يدرس في كثير من المدارس الدينية، وكانت النتائج في مدارس قم المقدسة - على سبيل المثال - غير مرضية، فما بالنا لو قسنا الأمر على دروس الفلسفة والعرفان وتفسير القرآن على مؤلفات ملا صدرا والسيد الطباطبائي وابن عربي في مرحلة المقدمات أو السطوح، وهي مؤلفات معقدة التركيب في ألفاظها ومعانيها، فضلاً عن شبهاتها الخطيرة في جوانب العقيدة والفكر والسلوك، وخضوعها لعامل الجدل والرفض المطلق أو الجزئي عند قطاعات علمية دينية واسعة؟ إنّ النتائج معروفة ومحسومة سلفاً على الصّعيد التعليمي، إضافة إلى معرفة الانعكاسات النظرية والعقائدية والاجتماعية الخطيرة التي ستترتب على الاستمرار في دراسة هذه المواد وما يشبهها بلا قواعد تحصين وتمكين علمي يحفظ للطالب شريعته قبل وظيفته وتضخمه العلمي. وهنا، ليس المراد بوضع البدائل التعليمية عند رموز الإصلاح هو تغليب مناهج الدراسات في العلوم الإنسانية والرياضية والطبيعية، أو إخضاعها عند تجربة الأزهر والقرويين والزيتونة التي تمثل المنهج الدّيني على اتجاه الخلافة، وإلا أُخرجت المؤسسة التعليمية الدينية الشيعية عن وظائفها وأهدافها، ولأصبحت قريبة من وظائف وأهداف المؤسسة المدنية وتطلب دمجها أيضاً خضوعاً عند متطلبات منهج التأسيس وتوفير الإمكانات والطاقات. فلكلّ مؤسسةٍ تعليميةٍ دينيةٍ ومدنية وظائفها وأهدافها الخاصة التي تتطلب تميّزاً خاصاً في المنهج والمادة. وأما البديل الإصلاحي فعليه أن يراعي هذا التمايز لا أن يميل إلى عناصر التطوّر الحضاري بحرفيةٍ متطرفة.
إنّ المحاولات الإصلاحية التي جرت خلال القرن الماضي على مناهج الدراسات الدينية مازالت تعتبر محاولات ابتدائية نسبة لحجم الإرث والتراث العلمي، والمتطلبات الوظيفية المتأملة، وتعقيد التحديات الثقافية والمعرفية والعلمية. فأكثر المؤلفات التي أُعدّت حتى الآن كبدائل عن مؤلفات المنهج القديم لم ترق إلى أن تكون بديلاً متكاملاً، بل يكاد أكثرها يمثل مدرسة فكرية خاصة لا علمية، وبعضها يمثل حزبية خاضعة لمؤثرات بيئة علمية على غير بيئتها الأصيلة. وكان اعتماد كثير من مثل هذه المؤلفات جاء على حساب مؤلفاتٍ أخرى كانت متميّزة جداً وأكثر جدوى وفائدة في مجال اختصاصها ولكنها كانت مغمور لأسباب موضوعيةٍ غير مقنعة، إضافة إلى كون الجهود المبذولة على تأليف وإعداد مثل هذه المؤلفات المقرّرة للتدريس كانت بوظيفة فردية اعتمدت الاختصار الحاد والتقسيم المتكلف ومعالجة التعقيد بسطحية، ووقع بعضها في حال الضّحالة في جانبٍ، والتعقيد والتفكيك في جانبٍ آخر. كلّ ذلك يدل على أن مسألة إصلاح المناهج وتجديدها وتعديلها بحاجةٍ إلى إمكانات مؤسسة بحث وتحقيق وتأليف ضخمة جداً من حيث عدد ونوع رجالها ورأس المال المرصود الذي يتطلب سند دولة تمتلك مقومات شأن حضاري واعي مجرد من أي خلفيات عصبية أو عاطفية. وربما كانت أكثر الصور النظرية وضوحاً وأبلغها أهمية في وظيفة إصلاح المناهج وتجديدها وتطوير النظام المؤسسي للمؤسسة التعليمية الدينية - ما عرض في شأن إحالة هذا المشروع الحضاري الضخم إلى مسؤولية «مجلس شورى فقهاء ومراجع دين» يقود العالم الإسلامي ويحمل على عاتقه إصلاح هذه المناهج والنظم.
وإذا كان مجلس شورى الفقهاء هذا صعب التأسيس والتشكيل على الصعيد السياسي بسبب اختلاف الرؤى ومتبنياتها التي بدأت تطفو على سطح الإحداث بعد تصدّي المرجعيات الدينية للشأن السياسي الحركي والرسمي وما رافق ذلك من تعقيدٍ باعد بين احتمالات القربى؛ فإنّ نظرية شورى الفقهاء والمرجعيات المنبثقة عن نصوص شرعية مؤكدة، وحثت مفاهيم وصور الاندماج المجتمعي القائم على إخراج هذه النظرية إلى الواقع العملي؛ توجب التجرد من المسبقات الخلافية وآثار السياسة.
* باحث بحريني مقيم في لندن
http://www.alwaqt.com/art.php?aid=120346