المدارس الإسلامية توسعت في دورها لمواجهة المؤسسة التعليمية الرسمية اتجاهات متراوحة بين فتاوى الرفض وتأسيس تعليم ديني حديث
كريم المحروس: الوقت-العدد 620 - الجمعة 22 شوال 1428 هـ - 2 نوفمبر 2007
كشفت ‘’المس بل’’ سكرتيرة المندوب السامي البريطاني في العراق؛ حقيقة دورالمؤسسة التعليمية الدينية وعلمائها وفقهائها في العراق بجلاء ووضوح فقالت ‘’إنعلماء الدين كانوا من أكبر دعاة الثورة في العراق في الحرب العالمية الأولىوبعدها، وهذا دعا رجال الحكم إلى إنشاء المدارس الحديثة لكي يضعفوا بها الدينفي نفوس الجيل الجديد، ويقتلعوا بذلك جذور الثورة من أساسها’’ (على الوردي، وعّاظ السّلاطين، ص893). ومن هنا انتشرت المدارس المدنية التي أسّسها الإنجليز في العراق، وفي المقابل حرّمت المؤسسة التعليمية الدينية على عامة الناس الدخول في مثل هذه المدارس المدنية، ولكنها لم تطرح البديل القادر على استيعاب طموح الناس في تعليمأبنائها. لذلك استوجب على المؤسسة التعليمية الدينية آنذاك توسيع مهماتها ووظائفها لتنشئ المدارس الدينية المنافسة بمناهج حديثة أو متطورة على المنهج القديم. وكان المواطن العراقي آنذاك في حيرة من أمره أمام الدولة الناشئة على النظام البريطاني الحديث التي تطلبت كادرا إداريا ليس باستطاعة أية مؤسسة تعليمية عراقية إعداده إلا المدارس المدنية الحديثة التي أنشأها البريطانيون بديلا عن المؤسسة التعليمية الدينية، فانشق الوسط الاجتماعي الحائر بين فتاوى التحريم ومتطلبات التعليم لأبنائه. وكانت النتيجة أن تقلّد أبناء المناهضين للفتاوى مناصب الدولة وإداراتها بعدتخرجهم على مناهج التعليم المدني الإنجليزي، بينما وقع أبناء الملتزمين بالفتاوى في وحل التخلف والجهل والفقر.
وقد أدركت المؤسسة التعليمية الدينية في العراق أبعاد سياسة الاستبداد والاستعمار وانعكاسات مدارسه المدنية على الأوضاع الاجتماعية والثقافية ودورها في زرع عوامل الخضوع والاستسلام فكانت المقاطعة شديدة لهذه المدارس، ولكن أُسيء فهم هذه المقاطعة بتأثير الدعاية المضادة أيضا. فانقسم الناس بعد ذلك إلى قسمين: الأول اكتفى بتأييد الموقف السلبي القائم على الدعوة إلى مقاطعتها، والآخر رأى أن يضم إلى المقاطعة عملاً إيجابيا يتمثل في الدعوة إلى فتح مدارس حديثة تحاكي تلك المدارس في المناهج والعلوم التي لا تمس المبادئ الإسلامية خصوصاً، مع إضافة دروس دينية تكفل تركيز هذه الروح والاحتفاظ بها في النفوس الناشئة. التحديث في التعليم الديني وكان من دعاة هذا التقسيم لفيف كبير من أعلام الدين واجهوا الكثير من المصاعب والمضايقات، لكن جهودهم توّجت بإنشاء مدارس فرعية ولم تلب كل الحاجة والغرض. وفي سوريا تبنى السيدمحسن الأمين هذا الموقف البديل، فأسّس في دمشق في أوائل القرن الماضي مدارس حديثة للبنين وللبنات أشرف عليها بنفسه. وأما في لبنان فقد أطلق السيدعبدالحسين شرف الدين صيحته الشهيرة وحكمته البالغة ‘’لا ينتشر الهدى إلا من حيث انتشر الظلال’’، حيث استنهض السيد همم الخيرين وأكمل بناء المدرسة الجعفرية التي افتتحت أبوابها للتعليم المجاني سنة 7391م. كان نجاح المشروع في لبنان حافزا قويا لأبناء لبنان، وخصوصاً في المهاجر، لدعم مشروعات السيد التعليمية، ما ساعد على أن يطور هذا المشروع ليضم مدارس عدة هي: الإعدادية الجعفرية للبنين ‘’للتعليم الابتدائي’’، والإعدادية الجعفرية للبنات ‘’للتعليم الابتدائي’’، والكلية الجعفرية ‘’للتعليم الثانوي’’ مع وجود أقسام داخلية. كما أسس مسجداً خاصاً بالأساتذة والطلاب وناديا باسم ‘’نادي الإمام الصادق’’ كان مقراً للمناسبات الدينية والمحاضرات الثقافية. وكان في نية السيدشرف الدين تأسيس كلية شرعية تأخذ على عاتقها إعداد الطلاب في العلوم الإسلامية ليلتحقوا في ما بعد بجامعة النجف لإكمال دراستهم والحصول على درجة الاجتهاد أو التخصص في شؤون الدعوة الإسلامية، بل كان طموحه الأكبر تطوير المدرسة الجعفرية إلى جامعةلأنواع الثقافات العالية من العلوم الإسلامية وغيرها. الدولة الحديثة والمؤسسة التعليمية الدينية
ومع انتشار هذه المدارس البديلة وتطوّر منهجها بعد ذلك بشكل نسبي في العالم الإسلامي، إلا أنها لم تكن بمستوى يمكّن من إخراج المجتمع الإسلامي من دائرة التخلف إلى حيث الحضارة والتمدن، لأن تلك المناهج التعليمية وتطورها كان في موضوعات محدودة جدا، كما اتسمت بعلاقات محدودة بالمحيط الاجتماعي، وهو ما فرض لونا من الحواجز بين حاجات المجتمع وبين التنافس العلمي في المؤسسة التعليمية في أمور نظرية أضعفت الدور الكبير للفقهاء في قيادتهم للمجتمع. ولعب الوضع السياسي أيضاً دوراً كبيرا في تلك المحدودية مع تطور الزمن ومراحله، إلى جانب عزلة المؤسسة التعليمية الدينية عن رعاية المجتمع وتحصينه ضد موجات الاتجاهات العقائدية والسياسية الوافدة. ففي النجف الأشرف مثلا توسّع نفوذ الوجوديين في فترة انعزال مؤسسة التعليم الديني، وكانت لهم مجلتهم ‘’الكلمة’’، وكان صراع المؤسسة التعليمية بعد ذلك مع هذه الاتجاهات مريرا، في حين كان أثر موجة هذه الاتجاهات ضعيفا جدا في كربلاء المقدسة لما للدور الكبير الذي لعبته المؤسسة التعليمية الكربلائية في تمتين علاقتها بمحيطها الاجتماعي وتحصينه ضد الفكرالوافد.
لقد أنشأت الدولة الحديثة مؤسسات ودوائر كان من بين وظائفها الانصراف إلى توثيق العلاقة بين الدولة والمجتمع وتلبية بعض حاجات الناس حتى تشكل من نفسها بهذا الانصراف بديلاً عن الخدمات التي تقدمها المؤسسة التعليمية الدينية ورموزها. فزاد ذلك من عزلة المؤسسة التعليمية عن مجتمعها، إلى جانب ذلك انشغلت هذه المؤسسة باجترار علومها على المنهج القديم مع قليل من الإبداع فيها حتى ‘’غدا العلماء في العصور الأخيرة يعمدون إلى جمع الكتب، ثم إلى اختصارها تسهيلا للطلبة والحفظة في أشكال متون صغيرة وقصيرة ودقيقة كما عمد آخرون إلى شرح تلك المتون وتلك المختصرات شروحا موجزة أو مطولة وإلى تعليق الحواشي عليها تعليقا مستفيضا. فكثر في البحوث القيل والقال، والتخيل والسؤال، وقل الإبداع وضؤل الاستكشاف وندر التجديد وضمرت الأصالة’’. وحين اضطلعت المؤسسة التعليمية الدينية بأحوال التعليم المدني وخطورته تنبّهت إلى أحوالها الذاتية وأوضاع مناهجها بعد تراكم الأثر السلبي لانتشار مدارس التبشير وتوابعها، وما نجم عنها من تحول فكري في الحياة العامة للناس. وكان التيار التقليدي الذي اعتمد التمسك بالواقع التعليمي والمحافظة على التراث من ناحيتي المنهج والوسيلة التعليمية هو التيار الأقوى بسبب شدة التحدي وغياب الإمكانات المادية القادرة على المساهمة في صناعة البدائل. بينما كان تيار رفض التراث العلمي الديني الأقرب إلى الانفتاح على المتغيرات الحضارية وتبني الدعوة إلى نبذ الدين، حيث انتقل بكل ثقله إلى الاصطفاف مع حركة الانقلاب ضد المؤسسة التعليمية الدينية. وقد تسبّب عن هذا التجاذب والتنافر صراع مرير اصطنع الكثير من التحديات أمام تيار ثالث إصلاحي رفض الجمود على التراث، لكنه رفض الانفصام عن التراث الديني ورفض حركة الانقلاب على المؤسسة الدينية. إنّ هذا التلاطم والتنازع الخطير بين التيارات الثلاثة: تيار الإصلاح وتيار التقليد والمحافظة وتيار الانقلاب على الموروثات العلمية والفكرية؛ أوجد بدوره مسيرة خطيرة في المجتمع الذي بدأ يبحث في دور الثابت والمتغير في الشريعة. فما كان بالأمس يعدّ من ثوابت الأمة؛ أضحى في حال اضطراب خطير أمام الداعين إلى تغيير هذه الثوابت بما يطال الأسس العقدية للدين الحنيف، وأما تلك الأمور التي كانت بالأمس في حال من التغير والتطور والإبداع والابتكار فقد تحولت إلى ثوابت لا يمكن القفز عليها أو مجاوزتها أو إصلاحها أو حتى مناقشتها ونقدها. وأصبحت حركة التعليم وما تمخض عنها من تراث في المنهج والوسيلة ضحية الجهل بثوابت الأمة ومتغيراتها، فتعرضت المؤسسة التعليمية بذلك إلى حصار وامتهان وأرجع إليها كل أسباب التخلف والجمود. كان رجال الإصلاح والتجديد مدركين بأن الإصلاح والتجديد الأصيل يكمن في وضع الشريعة ومتعلقاتها العلمية ومجالاتها العقائدية وقيمها وآدابها في المكان الموجب للاحترام والتقديس لأنها مصدر للفكر والثقافة، ومن ثم الانطلاق بهذه الشريعة لفهم الحياة ومعارفها وعلومها، وتأسيس قواعد وضوابط نظمها. لذلك بذل المصلحون أقصى جهودهم بحكمة وروية للتغلب على محنة التقليد الجامد والجهل في الفكر الثقافة معا. التراث في التعليم الديني والمدني وأما التحولات الوافدة من طريق الغرب فأصالتها مبنية على معطيات الانقلاب المفاجئ على الواقع البائس المزري، ولم تكن تخلو من مظاهر الاستعانة بقواعد فكرية ثقافة مؤسسة على ثوابت التراث اليوناني والمسيحي وإن حاولت الظهور بمظهر المتمرد على العقيدة والمتسامح مع فكرها وثقافتها. وقلما نهضت فكرة أو نظرية غربية تطورية أو تقدمية إلا وقامت على أصل من ذلك التراث. وقد اتصل الغرب بتراثه بشكل مميز للحاجات والضرورات التي تتطلبها حضارته، فبقى على ثوابته وأقام التقدم والتطور والإبداع فيما كان من شأنه التغير والتحول. إن التراث العلمي في بلاد المسلمين في مختلف المجالات ليس عطاء جامدا في أصله حتى يستدعي ذلك مجاوزته، فهو تراث يهم أمور الشريعة والقيم والأخلاق ومتصل بوجدان وضمير الإنسان نفسه وثقافته، وهو تراث حيوي يأتي أكله كل حين متى شاء العقل ذلك. ويمكن الرجوع إليه وإقامة البحوث والتحقيقات الفكرية والثقافية والعلمية وغيرها على أسس منه. ولا يمكن التنكر لأصول هذا التراث، لأنها ليست نصوصا منقولة أقيمت حولها وعلى أطرافها التعليقات والهوامش والتفريعات واتبع في ذلك وسائل تعليمية جامدة لا حياة فيها منذ قرون فحسب، بل هو تراث كانت له آثار اجتماعية كبيرة ومصيرية أيضا أبقت على الأمة وحافظت على استمراريتها في الحياة على رغم الموجات الحربية التي نشبت وأحدثت تدميرا شبه كامل.
من هنا وجدت جهود الإصلاح أن مواكبة الحضارة لا تتم بالتخلف عن هذا التراث وتقويض مؤسساته التعليمية ومناهجها الموروثة، بل إن الجمود هو ما كان موجبا للإزاحة عن هذا التراث ووسائله التعليمية. وأن الإصلاح في مناهج مؤسسات التعليم الديني كان بحاجة إلى تبني التراث والتمسك به إلى جانب الحاجة لتنشيط مقومات الانفتاح على الآفاق الحضارية. لأن غاية التعليم الديني هي معرفة الشريعة والتمسك بها للانطلاق بالمجتمع إلى حيث الحضارة والبناء الروحي والفكري القادر على تأهيل الإنسان وإعداده لممارسة وظائفه النظرية والعملية في مختلف الميادين. ولم تجدِ جهود الإصلاح التعليمي من خلال تتبعها للتراث الديني ما لا يصلح للنهوض بالأمة إلى الحضارة، لأن التراث بمختلف صوره ليس نابعا من رؤية تفيد بأن الشريعة ونصوصها ومفاهيمها هي نتاج للظروف الصعبة وتتابع الأزمات والكوارث التي لحقت بالإنسان، أو أن هذه الرؤية هي أساس قيام المناهج التعليمية وما رافقها من تربية سادت المؤسسات التعليمية الدينية. ولو كان الأمر كذلك، فلن يتوافر في الإسلام إلا تيارا الجمود والانقلاب، بينما كان تيار الإصلاح والتجديد حاضرا ووجد مجاهدا باسلا على أساس أصيل يرى في الشريعة تنزيلا ليس قابلا للجدل وليس ولادة عن الظروف والأحوال. وعلى أساس من هذه الرؤية الأصيلة يؤسس لفكر الإصلاح والتقدم والإبداع والتطور المؤيد لبناء مؤسسة تعليمية بمناهج وعلوم ووسائل جاعلة الحياة منسجمة مع التراث الديني من جهة فتخلق منها شخصية اعتبارية قوية مستقلة مبدعة في نظامها ومنهجها التعليمي، وسائرة في خط مواز للنظم الاجتماعية السائدة في المجتمع بحيث تؤثر فيه وتتأثر به بشكل إيجابي للوصول إلى التكامل، ويؤسس للانسجام مع العطاء البشري في الشأن الحضاري والمدني من جهة أخرى. وقد أدرك تيار الانقلاب متأخرا أن الغرب نفسه قد وصل إلى قناعة عقب دمار الحربين العالميتين: أن التعليم المنسجم مع الدين له تأثير كبير على التربية الوجدانية التي افتقدها التعليم المدني الغربي المتقيد بصور الصراع بين الدولة ودين الكنيسة. وقد تزايدت صيحات المفكرين وفلاسفة الغرب بضرورة إعادة التعليم الديني أو بعض مناهجه إلى المؤسسة التعليمية المدنية. فأقرت بعض المدارس العلمية دراسة العقائد والأديان وتضمينها مناهج التربية والتعليم حفاظا على تنمية وجدانية مقوّمة للمجتمع.
|