قالوا

 يعيش الجميع اليوم عصر الثورة المعلوماتية التي تنتشر فيها الأفكار و المعلومات بسرعة و سهولة من و إلى أي بقعة من بقاع العالم، و لكن ما فائدة هذا الكم الهائل من المعلومات في ظل هيمنة رأي واحد و فلسفة واحدة على نوعية هذه المعلومات، و أعني بذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي تعكس بمثل هذه الأفعال حقيقة العالم الذي تمثله و تريد في نفس الوقت.

الأستاذ علي السكري
من الذي صام؟ الدرازيون أم النعيميون؟   |    في ذمة الله الشَّابة زهراء عبدالله ميرزا صالح   |   ذمة الله تعالى الحاجة جميلة حسن عبدالله    |   على السرير الأبيض الحاج خليل إبراهيم البزاز أبو منير    |   برنامج مأتم الجنوبي في ذكرى ولادة السيدة الزهراء    |   في ذمة الله حرم الحاج عبدالله سلمان العفو (أم ياسر)   |    في ذمة الله الطفلة زهراء جابر جاسم عباس   |   نبارك للأخ الطالب محمد حسن علي ثابت حصوله على الماجستير في إدارة الأعمال    |   رُزِقَ الأخ عبدالله علي آل رحمة || كوثر || 12/12/2021   |   دورة تغسيل الموتى    |   
 
 الصفحة الرئيسية
 نبذة تاريخية
 أنشطة وفعاليات
 مقالات
 تعازي
 شخصيات
 أخبار الأهالي
 إعلانات
 النعيم الرياضي
 تغطيات صحفية
 ملف خاص
 خدمات الشبكة
 المكتبة الصوتية
 معرض الصور
 البث المباشر
 التقويم الشهري
 أرسل خبراً
 اتصل بنا
 
مقالاتالأستاذ كريم المحروس
 
مراحل نشوء وتطور التعليم الديني وضرورات التجديد المنهجي
الأستاذ كريم المحروس - 2007/04/29 - [الزيارات : 6562]

 

مراحل نشوء وتطور التعليم الديني وضرورات التجديد المنهجي

 

يصدر عالم الدين المجتهد عند اتجاه التشيع عن جهة علمية دينية كبيرة وعريقة وواسعة في تراثها العلمي والنفوذ الاجتماعي ، ويتصف بملكة علمية مميزة وإيمان وتقوى يفوق بهما أقرانه ،  ويمتلك الاستعداد الكامل الذي يؤهله لتحمل مسؤولية الوكالة عن الإمام المنتظر محمد ابن الحسن العسكري (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ويرقى به قمة المؤسسة التعليمية ويقود حياتها العلمية ويتصدى بها لشؤون المجتمع في مختلف أبعاد حياته.

وقد توسع التعليم الديني بقيادة المجتهد على مر التاريخ الإسلامي ليشكل مؤسسة متكاملة تضم تشكيلا إداريا ورتبا علمية ، فيؤدي المجتهد من خلالها مهامه ومسؤولياته العلمية ووظائفه الإدارية بشكل مباشر ، إلى جانب ذلك يستمر المجتهد في بحوثه وتحقيقاته العلمية لإثراء مبدأ الاجتهاد ومواد المؤسسة التعليمية في مجال الفقه وأصول الفقه خاصة ، كما يؤدي وظيفة مراقبة سير حركة التعليم وشؤون طلبة العلم الديني واحتياجاتهم ، ويفصل في شؤون المجتمع ويرعى حاجاته الشرعية ومراكزه الدينية الفرعية كالمدارس والمعاهد والمساجد وجهاتها الثقافية والإعلامية والمالية.

من هنا تعد المؤسسة التعليمية بالنسبة للمجتهد أهم مؤسسة علمية يرعاها بدعم من المجتمع الذي يقدم له عناصرها البشرية والاقتصادية ويحمي معاقلها وأسوارها ويحافظ على استقلالها ويوفر لها كل سبل الاستقرار حتى تتم أدوارها الدينية على أحسن وأكمل وجه ، ولا يتعاطى معها كأية مؤسسة مدنية أو نفعية؛ لما لها من اختلاف جذري عن مؤسسات المجتمع من حيث وظائفها ومهامها المقدسة الموجبة لحفظ الدين وتعاليمه ومفاهيمه وعلومه. فهي ليست مكونا فكريا خاصا أو روابط مهنية لشؤون مادية ومعنوية مجردة . 

ولهذه المؤسسة تميزها الخاص في الفكر والروابط والقوانين والوظائف المرتبطة والمرهونة بمصادرها الذاتية والتزاماتها الشرعية. وتتصف مادتها بقدسية خاصة ترجع إلى النص القرآني والسنة المطهرة ، ولها سلوك روحي وأخلاق راسية قائمة على معايير الالتزام والتقوى ، ولها رتب تتعين بمعيار الانضباط في إطار حزم كبيرة من العلوم والمعارف المختصة في المادة العلمية المقررة في منهج المؤسسة ذاتها ومراحلها. ولها علاقاتها الداخلية التي تتحرك في إطار ضوابط صارمة على صعيد العلاقة مع الذات كلما ارتفع عالم الدين رتبة علمية .  وأما علاقاتها الخارجية فهي مستقلة ولا تخضع لتوصيات السلطة وتوجيهاتها أو أي  مكون من مكوناتها أو نفوذ من نفوذها بالرغم من تعارض ذلك مع دورها الكبير في التصدي لإدارة الشؤون العامة والتدخل فيها .

وإذا ما أخذنا بدور النظرية الشيعية المعاصرة "شورى الفقهاء أو المراجع"التي أطلقها في حوزة كربلاء المقدسة المرجع الفقيه آية الله السيد محمد الشيرازي (أعلى الله درجاته) ، فإن فيها مركزية حضارية خاضعة للمجتهد تجمع بين إدارة الدولة وإدارة المؤسسة التعليمية الدينية بما تشمله من حوزات دينية ، وهي تفوق في آثارها وعطائها الإيجابي المتوقع النظرية الأخرى في الولاية المطلقة التي تبنتها حكومة ولي الفقيه الواحد المطلق"فإذا صارت الحوزات كذلك وخضعت لشورى المراجع كان الفقهاء المراجع هم الذين يخططون (حسب تشاورهم وتحاورهم ، وطبق تجاربهم وخبراتهم) مناهج الدرس والبحث ، وبرامج التبليغ والإرشاد. فإنهم مثلا يعينون أول الدرس وآخره ، وكيفيته وأسلوبه ، فقهه وأصوله ، عقائده وأخلاقه. وهم كذلك يعينون مرتبات الطلاب ورواتب المحصلين ، ووظائف الخطباء والمبلغين ، ودوائر عملهم وتبليغهم من حيث احتياج الناس داخل البلاد الإسلامية أو خارجها ، أو من حيث  قدرات المبلغين العلمية ونشاطاتهم العملية ، وتأمين معيشتهم وحياتهم اليومية . .. إن العالم الإسلامي بحاجة إلى نظام"شورى المراجع"وتثبيته في الحوزات العلمية وفي غيرها من المؤسسات القيادية ، الروحية منها والسياسية ، حتى يتمكنوا تحت ظل هذا النظام من استرجاع كيانهم وسؤددهم ، وإصلاح دنياهم وآخرتهم)1 .

وعلى ذلك فالمؤسسة التعليمية الدينية تعتبر مؤسسة عامة في جهة تعلقها بمصلحة الناس والسلطة وسط نظام إسلامي إذا ما تحقق وأخرج للواقع ، ولكنها تظل مؤسسة مستقلة عن النظام السياسي مادام النظام غير إسلامي .  ويصعب تحديد كون المؤسسة التعليمية الدينية مؤسسة عامة أو خاصة ، فالخصوص أيضا فيه مغالطة ، لأن المؤسسة التعليمية الدينية ليست خاصة بشخص المجتهد أو سلطته أو نفوذ أحدهما أو غيرهما وان شهدت بعض الحالات التاريخية الخاصة كما هو الحال بالنسبة للمرجع الديني الشيخ محمد حسن النجفي صاحب (جواهر الكلام) الذي نص على مرجعية الشيخ مرتضى الأنصاري من بعده .  كما أن المؤسسة ليست عامة أو خاصة في مناهجها وأهدافها أيضا .  ولكنها تبقى على وصف (المؤسسة) بحكم منهجها وعناصرها البشرية ونظمها وقوانينها والتزاماتها ورتبها الإدارية والعلمية ونفوذها الاجتماعي وتأثيرها على مرافق الحياة .

مرحلية التعليم وانتقاله

انطلق التعليم الديني في مبدأ نشوئه في التاريخ الإسلامي من قاعدته الأولى "دار الأرقم بن أبي الأرقم بن أسد أبو عبيد الله القرشي المخزومي" حيث كانت الطليعة الإسلامية الأولى تتلقى علم رسالتها على الرسول الأكرم )صلى الله عليه وآله( مباشرة . ولم تكن هذه الحركة تهدف إلى تعليم القراءة والكتابة فحسب ، بل كانت تقود منهجا متكاملا للأخذ بالأمة إلى حيث الإيمان السديد بالرسالة السماوية التي ضمت منهج حياة متكامل مؤكد على أهمية وضرورة التعليم والتعلم والتربية الوجدانية على أسس سليمة ومتينة استعدادا للانطلاق إلى حيث تحمل مسؤولية البناء والإصلاح الحضاري الكبير.

وكان الرسول الأكرم )صلى الله عليه وآله( يعلم أصحابه بآيات القرآن الكريم أولا بأول ، حيث يحفظونها ويرددونها ويتداولونها بين الأصحاب والمؤمنين ، ثم يشيعونها بشكل واسع جدا بين عامة الناس .

(1) الانتقال المدرسي 

ومع انتقال الرسالة الإسلامية إلى نهجها العام وهجرة الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة المنورة ، وانضمام الكثير من أهل مكة والمدينة إلى الدين الحنيف ، وبناء أول مسجد في المدينة يتصل فيه الناس بالرسول مباشرة للتعرف على رسالته وما يخبره الوحي من أحكام ومستجدات وضرورات؛ لم تعد الدور الصغيرة تستوعب أداء مهمة جديدة وكبيرة وواسعة بمثل ما ألقي على الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله ) من تعاليم وأدوار أضحت عظيمة وواسعة . 

فالمسجد بعد ذلك احتل الدور الأكبر عوضا عن دار الأرقم .  وقد ورد عن الرسول (صلى الله عليه وآله) الكثير من الأحاديث التي حثت على التعليم والتعلم في المسجد وعظم مكانة المسجد بالنسبة للتعليم وساوت بين أجر التعلم والتعليم في المسجد وأجر الحج وأجر الجهاد في سبيل الله . 

فقد ورد عنه (صلى الله عليه وآله) قوله:"من غدا إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلم خيرا أو يعلمه كان له أجر معتمر تام العمرة. ومن راح إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلم خيرا أو ليعلمه وفاه الله أجر حاج تام الحجة"2.

وقوله (صلى الله عليه وآله):"من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيرا أو لعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ، ومن دخل لغير ذلك كان كالناظر إلى ما ليس له"3.

فليس هنالك تعارض بين المسجد ووظائفه العبادية وبين التعلم والتعليم ، وربما أراد الرسول (صلى الله عليه وآله) من خلال تأكيده على التعلم والتعليم في المسجد إظهار مدى الاقتران بين العبادة ومعارف الإنسان المكتسبة في المسجد .  فالتعلم والتعليم لابد وان ينتهي إلى إصلاح ذات الإنسان وبناء نفسه وروحه وجسده بناء سليما موافقا لتعاليم الدين والوجدان البشري وما يتولد عن العقل .

ولم يكن التعليم في المسجد مقتصرا على تعريف الناس بدينهم وأحكامهم وما يستجد من عزائم ، كعزيمة الحرب أو السلم ، بل كانت تدور في المسجد مستويات عليا من الدروس العلمية والنقاشات الثقافية المختلفة ، كما كانت تدور حلقات تعليم وتوجيه تربوي في مختلف الشؤون العامة.

وكان المسجد يُتخذ أحيانا بمثابة موقع للدراسات العليا في الأدب واللغة والمواضيع الثقافية العامة. وقد رأينا أن الأئمة (عليهم السلام) من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) اتخذوا من المساجد منطلقا لتعريف الناس بالتشيع وعلومه المختلفة ، كما اتخذوه محلا للمناظرات العلمية وللاتصال بالناس وإدارة شؤونهم . وتخرج على أيديهم الكثير من الأصحاب الذين كتبوا وحفظوا عنهم من خلال اللقاء والحوار معهم في المسجد.

 فالإمام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) – على سبيل المثال- كان يعظ الناس ويزهدهم في الدنيا ويرغبهم في أعمال الآخرة في كل يوم جمعة في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى حُفظ وكُتب عنه . وروى المجلسي عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام): أن الإمام الباقر"كان جالسا في المسجد فجلس إليه أبو حنيفة ليسأله عن مسائل"4.

وقد عرف عن الإمام الصادق (عليه السلام) انه كان يلقي دروسه في حشد كبير من طلبة العلم حيث كان يجلس إليهم في المسجد حتى تخرج من بين صحابته الكبار أبان ابن تغلب الذي وثقه الأمام (عليه السلام) كمدرس أيضا يلتقى الناس ويعرفهم بفكر أهل البيت (عليهم السلام) ومروياتهم فقال الإمام الباقر (عليه السلام) لأبان:"أجلس في مسجد المدينة وافت الناس فإني أُحب أن يُرى في شيعتي مثلك"5. ثم تطور التعليم في المسجد من الاستماع والنقل كما هو الحال بالنسبة للعلاقة العلمية بين الرسول والناس الذين كانوا يتلقون شريعتهم من الرسول مباشرة - إلى نظام الحلقات الدراسية التعليمية ، وهو نظام دعا وأكد عليه الرسول (صلى الله عليه وآله)  .

فعنه (صلى الله عليه وآله) قال:"بادروا إلى رياض الجنة"، قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة ؟ قال:"حِلَق الذِكْر"6.

وكانت هذه الحلقات تدرس شؤونا مختلفة كالتفسير والفقه واللغة والآداب .  فقد روي عن النجاشي أن أبان بن تغلب كان"قارئا من وجوه القراء ، فقيها ، لغويا ، سمع من العرب وحكى عنهم ، وكان أبان إذا قدم المدينة تقوضت إليه الحلق"7.

 وكان شيعة أهل البيت (عليهم السلام) يفدون إلى هذه الحلقات وينهلون منها علوم أهل البيت ، وقال أبو الفيض للإمام جعفر الصادق (عليه السلام):"كنت أجلس في حلق شيعتكم بالكوفة"8.

واما مسجدا الكوفة والبصرة فقد عرف عنهما الكثير من حلقات التعليم في مجالات مختلفة شهدها المئات من طلاب العلم. فعن الحسن بن علي بن زياد الوشاء قال لابن عيسى القمي:"أني أدركت في هذا المسجد - مسجد الكوفة -  تسعمائة شيخ كلٌ يقول حدثني جعفر بن محمد (عليه السلام)9 . 

وأما مسجد البصرة  فقد كان موئلا للمباحثات والمساجلات الكلامية التي نشأت بين جدرانه بعد ذلك ."وهكذا قيل في مساجد بغداد كمسجد ابن المبارك ، ومسجد المنصور الذي كان"قبلة أنظار الأساتذة والطلاب"، وجامع عمر بن العاص في الفسطاس ، وجامع ابن طولون والأزهر الشريف في مصر .  أما جامع قرطبة فكان بحق جامعة من الجامعات الإسلامية العالية"10 .

وقد دل اهتمام المسلمين بالمسجد في شؤون شريعتهم وعلومهم على أن المسجد كان بحق مركزا تدور حول رحاه حركة المسلمين .  وبما أن المسجد نفسه كان جامعا لكل الشؤون العامة والتعليمية منها على وجه الخصوص ؛ فقد كان أيضا محلا للتراكم العلمي الفكري الناتج عن المجريات اليومية التي تبحث في أوساط المسلمين وتناقش . 

(2) نقلة الدور والمساجد

وبتعاقب الزمن وتعرف الناس على الإسلام بشكل متدرج انسجاما مع نزول الوحي المعالج للقضايا وفق زمن حدوثها ، ازدادت حصيلة المساجد من العلوم والأفكار والألفاظ المستجدة التي تفوه بها النبي (صلى الله عليه وآله) وتميز بها الدين الجديد، ما جعل المسجد جامعا وجامعة لكل متعلق بشؤون الحياة اليومية للمسلمين .

وكانت الشورى التي اعتمدها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في مناقشة ودراسة الأمور في المسجد قبيل اتخاذ شأن أو قرار فيها ؛ قد أظهرت للمسلمين أيضا بعدا جديدا ووسيلة لإنماء الفكر .  من هنا بدأت المساجلات والحوار في شؤون مختلفة ومتنوعة في المسجد .  لكن المسجد نفسه لم يكن بديلا كاملا عن المنازل والبيوت بعد عهد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله). وتكمن الأسباب في وجود خصوصيات أبرزتها عوامل عدة ربما كانت الأسباب السياسية والأمنية وانقسام المسلمين إلى شطرين بعد وفاة الرسول (صلى الله علية وآله) وما تبع ذلك من مشاحنات وصراع حول شرعية الخلافة والإمامة، هي إحدى دواعي العودة إلى البيوت للدراسة .  لكن اعتماد الرسول (صلى الله عليه وآله) في بداية دعوته لدار الأرقم محلا للتعليم والتثقيف والبناء الفكري والإخبار عن مستجدات الوحي ؛ كان مثالا بارزا على أهمية المنازل والبيوت في تلقين العلم وتعلمه ، ما جعل المسلمين يمارسون دور التربية والرعاية التعليمية من خلال البيوت برغم تحول الرسول بعد ذلك إلى تنمية دور المسجد. 

وتميز أتباع اتجاه التشيع على غيرهم بوضع أهمية خاصة للبيوت كمحل للتعلم والتعليم ، بحكم كونهم مستهدفين من قبل الحكومات المتعاقبة ، لكنهم لم يجعلوا البيوت بديلا عن المساجد .  ففي البيوت كانوا يمارسون دور التربية والتعليم فيما يخص مذهبهم وفيما كان محظورا تداوله من فكر وعلوم مختصة بأهل البيت (عليهم السلام) من قبل الدول المتعاقبة ، وفي نفس الوقت كانت المساجد بالنسبة لهم كما كانت للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، يتصلون من خلالها بعامة الناس ويتحاورون فيها فيما يتعلق بشأن الخلافة والإمامة وغيرهما . 

وسميت اللقاءات التعليمية في البيوت والمنازل بـ(المجالس) ، حيث كان لفظ المجلس يطلق على مكان أو جزء محدد من البيت ربما كان منعزلا عن بقية أجزاء المنزل تعقد فيه الدروس ، كما كان يطلق لفظ الجلسة على حلقة الدرس أيضا.  وتذكر الكثير من مصادر ومؤلفات الشيعة القديمة على وجه الخصوص هذا اللفظ حين يعقد المجلس بحضور إمام من أهل البيت (عليهم السلام) أو بحضور جمع من صحابة الأئمة (عليهم السلام) .

فقد ذكر المفيد في فصوله أن بعض صحابة الإمام الصادق (عليه السلام) ، كانوا يحضرون في مجلسه لكسب معارف أهل البيت (عليهم السلام)11.

ويشير زرارة ابن أعين إلى العلاقة العلمية الخاصة بينه وبين الإمام الباقر (عليه السلام) ، حيث كان الإمام يمتلك من العلوم ما لا يوجد مثيل لها بين عامة الناس ، أو ما يعد من خصوصيات أهل البيت من العلوم . وأما أبو بصير فهو يقول: دخلت على أبى عبد الله (عليه السلام) فقلت له: جعلت فداك أني أسألك عن مسألة ، هاهنا أحد يسمع كلامي؟ قال: فرفع أبو عبد الله (عليه السلام) سترا بينه وبين بيت آخر فأطلع فيه ثم قال: يا أبا محمد سل عما بدا لك ، قال: قلت: جعلت فداك أن شيعتك يتحدثون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) علم عليا (عليه السلام) بابا يفتح له منه ألف باب . .."12.

واشتهر بعض كبار علماء اتجاه التشيع ، كمحمد بن عمران (ت384هـ) ، بجعل بيوتهم محلا لتعليم وتعلم العلوم ، وكان أشياخه يحضرون في داره فيسمعهم ويسمع منهم.

واما دار محمد بن مسعود العياشي الذي اشتهر بكتبه التي تزيد على 200 مصنف ، فهي من الدور المهمة عند شيعة أهل البيت (عليهم السلام) ، حيث"كانت كالمسجد بين ناسخ أو مقابل أو قار أو معلق ، مملوة من الناس ، وصنف كتبا في أصناف العلوم وكان في أول أمره عامي المذهب ثم استبصر"13.

وعرف الكثير ممن برز واشتهر من علماء الشيعة ، من بينهم: حيدر بن محمد السمرقند ، الذي روى ألف كتاب من كتب الشيعة بقراءة وإجازة"14. كما اشتهرت مجالس الشريف المرتضى التي كانت حصيلتها تأليف كتاب"الدرر والغرر"و"الأمالي"وهي مجالس أملاها . .. تكلم فيها عن النحو واللغة والتفسير و الحديث وغير ذلك.15

وبرغم تحول وظيفة التعليم في الكثير من أحواله إلى المنازل والدور إلا أن المسجد ظل محتلا للمركز الأول من حيث تنوع العلوم وعدد الحضور في أروقته وزواياه. وذكر خلال عهد الدولة الأموية أن أكثر حكوماتها المتعاقبة اعتبرت المسجد مركزها الأول الذي تلتقي فيه الكثير من الفعاليات العلمية الرسمية والشعبية ، بينما وضع أتباع أهل البيت (عليهم السلام) اهتماما خاصا للمجالس والحلقات في الدور إضافة إلى المسجد .  وكان ذلك من أهم العوامل التي وفرت لتراث أهل البيت (عليهم السلام) الحماية والوقاية في مقابل ألوان متعددة من الوضع في الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله) . ففي الدور كانت تجري عملية تدوين وحفظ وتدوير وتصنيف كبيرة لروايات أهل البيت (عليهم السلام) ، ومن خلالها تلقى اتجاه التشيع مناهجه في العلوم المختلفة.

(3) انفصال المدرسة عن الدور

تطورت الدروس في المساجد وتنوعت واتسعت في آفاقها العلمية.  ولم تعد مهمة التدريس ووظيفة تدوير العلوم مقتصرة على الصحابة من الرجال والنساء الأولين بصفتهم مدرسين وطلاب فحسب ، بل الأمر تعدى إلى الجيل الجديد الذي تربى في أحضان جيل الوحي ، وهو جيل فرض نفسه بقوة على مراحل البناء النفسي والروحي التي وضعت أسسها بشكل أكثر وضوحا في المدينة المنورة خلال مراحل الاستقرار التي أعقبت فتح مكة المكرمة . 

وبعدما وصلت عملية تبادل العلم ونقل نصوص السنة إلى مستوى من الكمال بين مرحلة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والمراحل التي تلت وفاته بالتلازم مع وظيفة تعليم الكبار القراءة والكتابة وتحميلهم تعاليم الوحي التي لامست العلاقة مع كل شرائح المجتمع بمن فيهم الأطفال والصبيان ؛ ظهر أمر مستجد فرض نفسه بقوة على المسلمين وكان لزاما عليهم الاستجابة له ؛ تمثل في وظيفة استيعاب جيل الأطفال والصبيان المرافقين للصحابة إلى المساجد . 

كل ذلك تطلب عقد أماكن خاصة تجمع الأطفال والصبيان تحت إشراف عدد من المهتمين بالشأن التعليمي كمربين ومدرسين .  يضاف إلى ذلك"إن جملة من المعلمين كانوا بالإضافة إلى انشغالهم بالتعليم يمارسون بعض الأعمال الحرفية والمحدودة ، وحيث لم يفلحوا في تأمين مورد مناسب ، لم يكن أمامهم إلا اتخاذ المدارس وسيلة تكسب ، وهو رأي (فون كريمر) von kremer ، حيث جاء فيه:"... وتبعا لرأي (von kremer) كان هناك جماعة شغلوا بالتعليم معظم وقتهم وحاولوا أن يرتزقوا من طريق حرف بسيطة كانوا يقومون بها مع التدريس ، لكنهم فشلوا في الحصول على مستوى مناسب من العيش ، فلم يكن من بد – حينئذ- من إنشاء المدارس لتضمن لهم جرايات تقوم بحاجتهم"16. 

وبهذا المستوى من النمو في حلقات الدرس والتوسع في الأفق التعليمي عند المسلمين واضطرار بعضهم لاستخدام الدور والاستمرار في تبادل العلم من خلالها ، سواء للصغار أو الكبار ؛ تطور عن ذلك  ما عرف بعد ذلك بالمدارس الدينية التي أنشئت في أماكن مستقلة قريبة من المساجد أو قريبة من بعض أضرحة وقبور علماء المذاهب أو الفقهاء أو الأولياء  الصالحين بعد ذلك . "ففي سمرقند كانت هناك مدرسة بجانب القبر المنسوب إلى قثم بن العباس ابن عم النبي (صلى الله عليه وآله) . وإما قبر الفقيه الحنفي أبى حفص الكبير المتوفى في سنة (217هـ/832م ) مُدخل المذهب إلى بخارى وتلميذ ابن الحسن الشيباني ، فقد تحول إلى مدرسة منذ القرن الرابع الهجري ودرس فيها عدد من أعضاء أسرته الفقه الحنفي ، وإما قبر الفقيه الشافعي القفال الشاشي بطشقند فقد بنيت بلصقه مدرسة ما تزال موجودة إلى اليوم ، فهي المقر للمفتي هناك .  وفي بغداد أقيمت مدرسة على قبر أبى حنيفة سنة (457هـ/1065م) .  وفي القاهرة أقيمت مدرسة على قبر الشافعي سنة (575هـ /1179م)"17. 

من هنا كان قرار الشيخ أبى جعفر محمد بن الحسن الطوسي في سنة (449هـ/1056م)  جاء تعقيبا على إحراق السلاجقة كتبه وداره وكرسيا يرتقيه أثناء الدرس في بغداد ، إذ لجأ إلى مدينة النجف الأشرف في العراق ليجاور مرقد علي بن أبى طالب (عليه السلام) و"لينشئ هناك ما عرف بالحوزة العلمية"18 . 

ويختلف المؤرخون والباحثون حول أول نشوء لأول مدرسة دينية وتاريخه والأسباب الرئيسية وراء هذا النشء الجديد .  وكان أول نشوء لهذه المدارس قد عرف بين القرنين الرابع أو الخامس الهجريين ، لكن المرجح أن أهل نيسابور وبخارى كانوا أول من أنشأ المدارس في النصف الأول من القرن الرابع الهجري .  وكان من بينها "مدرسة ابن فورك المتوفى سنة (1014م) ، والمدرسة البيهقية والمدرسة السعدية التي بناها (نصر بن سبكتكين) أخو السلطان (محمود غزنوي) دون أن ننسى مدارس بخارى التي أنشئت في الفترة نفسها التي أنشئت فيها مدارس نيسابور"19.

وقد سجلت بعض مصادر اتجاه التشيع أن المدارس كانت متواجدة خلال حياة الشريف المرتضى (436هـ)"حيث اتخذ دارا سماها دار العلم وفتحها لطلبة العلم وعين لهم جميع ما يحتاجون إليه"20 ، ويذكر شمس الدين ابن خلكان (1211-1281هـ) خلال حديثه عن حياة الشريف المرتضى ومكانته العلمية عند أتباع اتجاهي التشيع والخلافة ، أن ابن بسام الأندلسي ذكر في أواخر كتاب"الذخيرة": "كان هذا الشريف إمام أئمة العراق بين الاختلاف والاتفاق ، إليه نزع علماؤها ، وعنه أخذ عظماؤها ، صاحب مدارسها وجامع شاردها وانسها ، ممن سارت أخباره ، وعرفت أشعاره ، وحمدت في ذات الله مآثره وآثاره ، إلى تواليفه في الدين وتصانيفه في أحكام المسلمين . ."21

ويشار أيضا إلى"المدرسة النظامية"التي أقامها الوزير نظام الملك في بغداد سنة (459هـ-1067م) كأول مدرسة أقيمت في التاريخ الإسلامي ولها نظامها ومنهجها الخاص في التدريس ولها مواردها المالية الثابتة تصرف على طلابها ومدرسيها ومساكنهم ، كما أشار إلى ذلك ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان". ويذهب بعض الباحثين إلى القول بأن عضد الدولة البويهي (369هـ- 980م) كان أول من أسس مدرسة في العراق سميت بـ (العضدية) خلال فترة زيارته لكربلاء المقدسة ولم يعد لها اثر اليوم بعد أن دمرت في عام (1935م) ، إضافة إلى مدرسة أخرى بناها عضد الدولة بالقرب من مقبرة آل بويه بعد عامين من إنشاء أول مدرسة في كربلاء ، وقد أزيلت في عام (1948م) .  وذكر (ابن الكازروني) المتوفى في سنة (697هـ) في مؤلفه (مختصر التاريخ) أن الخليفة العباسي"المعتضد بالله"قد أسس في القرن الثالث الهجري (369هـ) ما يشبه الجامعة ليستكمل بها (دار الحكمة) التي أسسها الرشيد . 

ويبدو أن المدارس حينذاك كانت على مستويين علميين أو أكثر .  فلا تعني المدارس ما كان يحضره الولدان الصغار للتعلم أو ما كان يطلق عليه بعد ذلك لفظ (الكتاتيب) فحسب - وهو نظام تعليمي كان معروفا قبيل الإسلام وبعده وذكر أيضا على عهد معاوية من خلال رسالته التي وجهها لعماله يحثهم فيها على مناهضة أهل البيت (عليهم السلام)- ؛ بل أنها تختص أيضا بالأماكن التي كان يجتمع فيها كبار علماء المذاهب المختلفة بين حلقات تتحاور في مجالات علمية مختلفة . 

وتصنف مدارس العلماء وكبار رجال المسلمين إلى مستوى جامعي عالي تخرج عنه الكثير من رجال الفكر والعلم حيث اتسمت هذه المدارس بتطور ظاهر في دراسة علوم القران الكريم ، واللغة وآدابها ، وعلم الكلام الذي نما خلال هذه الفترة العلمية .  وحيث كانت هذه العلوم تتطلب أحوالا خاصة من النقاش والجدال في الأدلة والبراهين والحجج ، وعلى فترات طويلة من الزمن ، وهي أحوال ربما كانت مقتصرة على طبقة محددة وواسعة من العلماء الكبار المتخصصين في هذه العلوم دون عامة الناس ؛ كان من الأجدى والأحسن الانتقال من المساجد إلى حيث المدارس والمواقع الخاصة. بينما كان انتقال دروس الصبيان إلى مدارس أو كتاتيب خاصة بدلا عن باحات المساجد وزواياها وأروقتها مقبولا خضوعا عند ما كان يتصف به الصبيان من عدم إدراك أهمية رعاية حرمة المساجد وقدسيتها. وقد عرف عن  الإمام الصادق (عليه السلام) تأكيده على اجتناب جعل المساجد أماكن للصبيان ، حيث قال:"جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ، ورفع أصواتكم وشراءكم وبيعكم والضالة والحدود والأحكام ."22

وكانت الكتاتيب قد لعبت دورا مهما في استيعاب الصبيان ، وهم الجيل الجديد بعد الأجيال التي عايشت تبلور الشريعة في أيامها الأولى .  وبذلك تحولت هذه الكتاتيب بحكم استيعابها للأطفال إلى المدرسة التعليمية الأولى التي استوجبت رعاية كبيرة خاصة .  لكن هذه الكتاتيب تعددت في اتجاهاتها بحكم التعدد المذهبي الجديد الذي ظهر بعد ذلك بين المسلمين ، ولكنها من حيث المنهج لم تكن تختلف كثيرا . فأصل الكتاتيب بدأ بتدريس وحفظ القرآن الكريم واللغة التي شملت الكتابة والقراءة كمواد أساسية ، واستمرت على هذا المنوال إلى أن تقرر إضافة مبادئ الحساب إليها .

وقد عرف عن الأئمة (عليهم السلام) أنهم أوكلوا مؤدبين لتعليم بعض أولادهم ، كما هو الحال بالنسبة للإمام جعفر الصادق (عليه السلام). كما اتبع الكثير من شيعتهم نفس النهج في تعليم وتربية أولاهم. لكن الكتاتيب التي ينتسب إليها الشيعة تعرضت إلى مضايقات من قبل الدول المتعاقبة في إطار الحملات العنيفة التي طالت اتجاه التشيع ومؤسساته العلمية ، بينما نمت وترعرعت كتاتيب المذاهب الأربعة تحت إشراف ما كان يطلق عليه لفظ (المؤدب) ، وهو المدرس المحترف والمختص بتدريس مواد الكتاتيب .

كانت المادة العلمية واضحة المعالم ومتقاربة جدا في الوسط التعليمي الديني بين الكتاتيب وغيرها من حلقات العلم المتقدمة ، لذلك كانت المدارس الدينية متشابهة من حيث مادتها في علوم القرآن والحديث والفقه والسيرة وغالبية علوم الآلة كاللغة العربية والأدب .  واستمرت المدارس في نشاطها التعليمي منذ نشأتها في القرن الثاني الهجري إلى أن تبلورت في هيئتها المعاصرة ونمت إلى مستوى الجامعة . 

ويسجل التاريخ لنا مئات المدارس والمعاهد في أرجاء البلاد الإسلامية كافة ، لكن أشهرها منذ نهاية القرن الثالث الهجري كانت: دار العلم في بغداد (381هـ) ودار الحكمة (395هـ) ودار العلم ودار الكتب في مصر ، وبيت الكتب للصاحب بن عباد (385هـ) بالري ، ودار الكتب لابن سوار في رامهرمز ، والنظامية في بغداد (459هـ) ومدرسة أبي حنيفة (459هـ) ومدارس النجف (448هـ) ، والمدارس الشرابية في بغداد (629هـ) ومدرسة واسط (632هـ) ، والمدرسة المستنصرية (630هـ) ، ومدارس مكة الكرمة (641هـ) ، والمدرسة المرجانية (758هـ). ومدارس الكاظمية والحلة (608هـ) ، ومدارس قرطبة ، ومدرستا القبة والمرصد بمراغة (656هـ) ، ومدارس القسطنطينية ، والمدرسة المربعة في سمرقند (853هـ) ، ومدرسة الرنيق العثمانية (800 هـ) ، وبيت العلم (1308هـ)  في الهند .

تطور المنهج التعليمي 

كانت محاور التعليم في الدور والمساجد في مراحلها الانتقالية تقتصر على إعداد الحضور لحمل المرويات في الأصول والفروع الدينية وما أشبه. لذلك كان النص في هذه المرحلة هو الهدف والمقصد المتعلق بوظائف جهات التعليم .  ولأن الكثير من حملة النصوص قد خضعوا لعوامل الاختلاق والوضع والتحريف والتزوير في مراحل تاريخية مختلفة يرجع بعضها لأسباب شخصية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو عقائدية مختلفة ، مجتمعة أو متفرقة ؛ فقد تطلب الأمر إعداد معايير خاصة في وظيفة حمل المرويات ونقلها وتداولها ، ودراسة عناصرها بين المتن والسند إضافة إلى حجيتها ومن ثم الاجتهاد بها بعد انقطاع عهد التشريع وحتى حين تحولها اثر ذلك إلى مادة أساسية دارت عليها رحى العلم ومراحل التعليم في مواقع دينية مختلفة.

فقد أشار  الإمام علي (عليه السلام) إلى آليات تحمل الخبر والرواية ونقلها ، وهي آليات لها من الخاصية ما بلور تخصصا علميا في مجاله ، فعنه (عليه السلام) قال:"اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية ، فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل". وقال أيضا:"إذا سمعتم من حديثنا ما لا تعرفونه فردوه إلينا ، وقفوا عنده ، وسلموا ، حتى يتبين لكم الحق ، ولا تكونوا مذاييع عجلى"23.

وعرف في فترة التشريع الإسلامي أن نقل السنة كان بطريقين: طريق النقل الشفوي ، وطريق النقل التحريري .  وتعرض طريق نقل الرواية التحريرية إلى مواجهة ورفض عند بعض الصحابة وعدّوها (مشناة كمشناة أهل الكتاب) كما في اجتهاد عمر بن الخطاب .  لذلك تأخر تدوين السنة عند اتجاه الخلافة جريا على اجتهاد عمر حتى صدور الأمر الأموي في عهد عمر بن عبد العزيز بكتابة السنة وتدوينها .  فجمعت السنة في النصف الثاني من القرن الثاني ممزوجة بأقوال الصحابة واجتهادهم من بعد التأكيد الرسمي على النزاهة المطلقة للصحابة كافة تحت دلالة نص مختلق يفيد بأنهم نجوم (فبأيهم اقتديتم اهتديتم) .  ثم صنفت هذه المؤلفات بعد صدورها في نهاية القرن الثاني الهجري وجمعت أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) بمعزل عن سنة الخلفاء في مؤلفات أخرى كثيرة جدا ، فلحق هذه المرحلة دور كتابة الصحاح كـ (الموطـأ) لمالك بن انس و(مسند ابن حنبل) و(جامع البخاري) و (القشيري) و (سنن السجستاني) و (الترمذي) و (النسائي) و (ابن ماجة) وغيرها.

وتؤكد مصادر اتجاه التشيع المعتبرة أن الإمام علي(عليه السلام) أول من كتب بإملاء من النبي (صلى الله عليه وآله) في كتاب اسمه ( كتاب عليّ) .  وبهذا الدليل لم يمنع الشيعة كتابة السنة وتدوينها بل حرضوا وحثوا على كتابتها ، واشتهر عندهم في عهد الأئمة (عليهم السلام) أربعمائة كتاب سميت بـ"الأصول الأربعمائة"ومؤلفات أخرى. ثم تبعها في عهد الغيبة الكبرى ما اشتهر عندهم بـ"الكتب الأربعة"التي تميزت بالنقل عن الكتب الأربعمائة وفق تبويب وإضافات على الإسناد ، وهي: كتاب (الكافي) للكليني الرازي ، وكتاب (من لا يحضره الفقيه) لابن بابويه القمي ، وكتاب (تهذيب الإحكام) وكتاب (الإستبصار) لمحمد الطوسي . ثم تبع هذه المؤلفات تأليف (الجوامع المتأخرة) بإضافة تعليقات مؤلفيها على الكتب الأربعة ، وهي: كتاب (الوافي) للفيض الكاشاني ، وكتاب (وسائل الشيعة) للحر العاملي ، وكتاب (بحار الأنوار) للمجلسي ، وكتاب (مستدرك الوسائل ومستنبط الدلائل) لميرزا النوري.

واختلف اتجاه التشيع في تصحيح (الكتب الأربعة) التي كانت تضم كل ما جاء في الكتب الأولى (الأربعمائة) بين كونها جاءت مقطوعة الصدور عن الأئمة (عليهم السلام) وبين كونها جمع للمرويات بلا اجتهاد ، ما ساهم في تطور مناهج البحث والتحقيق وتعدد المادة الآلة وتطورها وتصنيف الرتب العلمية في مدارس التشيع ومراكزه .  فكانت البحوث والتحقيقات تدور حول شهادة مؤلفي هذه الكتب بصحة أحاديثهم المنقولة ووثاقة رواتها وسندها فتعد بذلك صحاحا مشابها لمفهوم صحاح اتجاه الخلافة ، وعلى ذلك بني منهج المحدثين (الإخباريين) بنيانه ، وكان على رأسهم الميرزا محمد الأسترابادي صاحب كتاب (الفوائد المدنية). وإما أنها دونت على أساس غير اجتهاد مؤلفيها فلا تعد صحاحا ويمكن أن تخضع لاجتهاد المجتهدين ، وعلى ذلك ذهب منهج (الأصوليين) الذين اثبتوا بالدليل اجتهاد المؤلفين في الجمع فلا يقع اجتهادهم حجة لغيرهم من المجتهدين.

وقد بدأ مثل هذا الجدل والحوار والنقاش في المؤلفات خلال فترة انقطاع عهد التشريع في فترة الغيبة الصغرى للإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ، فتطور مفهوم الاجتهاد وآلياته ومناهجه وقواعده وتبلورت مصادر التشريع وبرز الكثير من المجتهدين المراجع كالشيخ المفيد (413هـ) وتلميذاه: المرتضى (436هـ) والطوسي (460هـ) ، وتبع ذلك تطور المؤلفات في جوانب قواعد الحديث والرجال (الرواة) وأصولها إلى جانب تطور علوم الآلة ومناهج الدراسة والمكتبات والمؤسسات التعليمية.

أ- التطور المنهجي والمؤسسي 

تبلورت الحوزات والمعاهد والمراكز والمدارس التعليمية الدينية وتعددت في شكلها الراهن كمؤسسة بفعل عدد من الظروف المنتهية إلى انقسام المسلمين إلى مدرستين فقهيتين اجتهاديتين. وقد بدأت المدرسة الفقهية لاتجاه الخلافة في بلورة موضوعها الفقهي ومادة تدريسها العلمي مع نشوء مذاهبها التي اجتهدت في مرحلة غياب الصحابة وانقراضهم ، وأسست أصول الفقه ، وألّفت الموسوعات الفقهية والأصولية إضافة إلى الموسوعات في مادتي الحديث والرجال .  وأما بالنسبة لمدرسة أتباع اتجاه التشيع ، فقد انتقلت إلى الاجتهاد وتدوين العلوم والتأسيس للأصول بعد الغيبة الصغرى للإمام الثاني عشر  المهدي بن الحسن العسكري (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ووفاة آخر سفرائه الشيخ علي بن محمد السمري .

إن هذا التحول في الوسط الإسلامي في جهتي المذهبية وغياب عهد التشريع عند كل من أتباع اتجاه التشيع واتجاه الخلافة وانطلاق عهد الاجتهاد عند كل منهما ؛ كرس مفهوم جمع العلوم وتدريسها وتهيئة الظروف المناسبة لعهد تعليمي جديد قائم على منهج دراسة ووسائل علمية جديدة ، يخرج العلماء والفقهاء والمجتهدين العارفين بأصول استنباط الأحكام الشرعية من مصادر التشريع التفصيلية التي حُددت عند اتجاه الخلافة في وقت مبكر على القرآن والسنة والإجماع والقياس ، بينما ربعت مصادر التشريع عند أتباع اتجاه التشيع اثر تبلور"الإجماع"و"العقل"بعد عهد الشيخ المفيد .  وبذلك وضعت الأسس لقاعدة علمية وتعليمية واسعة جدا أضيفت إلى وظيفة إعداد حفاظ القرآن والسنة والسيرة.

وكانت البداية في عهد الغيبة الصغرى بالنسبة لأتباع اتجاه التشيع مناسبة لإعداد مرحلة علمية جديدة حيث كانت نهاية عهد التشريع بغياب الإمام المعصوم (عليه السلام) تطلبت الكثير من الجهود العلمية على طريق تطوير مفهوم الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية وآلياته ومواده ، فشرع الشيعة في تأليف الموسوعات العلمية في الحديث الشريف واستخلاص القواعد الفقهية وفق مناهج منظمة بالإضافة إلى تطوير المعاهد والمراكز العلمية والمدارس في إطار مؤسسي مناسب مساهم في بلورة فكرة الزعامة الفقهية والعلمية . 

كل ذلك تطلب أيضا استكمال البحث في معالم مصادر التشريع بعد الغيبة الصغرى ، فأضيف"الإجماع"على يد السيد المرتضى علم الهدى من خلال مؤلفه (الذريعة إلى أصول الشيعة) ، والشيخ الطوسي من خلال مؤلفه (العدة) ، ثم ربع ابن إدريس مصادر التشريع فأضاف (العقل) من خلال كتاب (السرائر). وهكذا تضافرت مشروعية الاجتهاد وتنظيم المؤلفات في الرواية والحديث وتربيع مصادر التشريع والأدلة الفقهية مع تأسيس بعض المراكز العلمية كمكتبة (سابور) وخزانة الشريف المرتضى في العراق ودار العياشي بسمرقند ومدرسة الرازي بالري ، إلى جانب ذلك تبلورت مهمات الفقيه المجتهد على عهد الشيخ المفيد فكانت إدارية تربوية تعليمية مؤسسية شاملة ، ساهمت في دور بناء المدارس الدينية الكبيرة والمتخصصة بالإضافة إلى إنماء فكرة التصدي لشؤون الفتوى ورعاية الجانب المالي والاقتصادي المساند لمسيرة المؤسسة التعليمية الدينية.

وأثرى كل من مجتهدي الشيعة وفقهاء اتجاه الخلافة المؤسسة التعليمية الدينية بمؤلفات كثيرة جدا كانت محل تداول ودراسة بين أروقتها وزواياها وعلى منابرها. فقد توسع الشيخ الكليني عند الشيعة بعد الغيبة الكبرى في مؤلفاته الجامعة للحديث إلى جانب مؤلفات الحديث عند البخاري ومسلم وغيرهم .  لكن الدراسة في هذه المؤلفات اختلفت بين اتجاه التشيع واتجاه الخلافة . 

فقد توصل اتجاه الخلافة إلى وقف مذهبي على مدارس فقهية أربعة هي الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية ، وسد عند هذا الوقف عهد الاجتهاد واستقر على مؤلفاته التي أفردت الأحاديث الصحيحة لهذا الاتجاه ، حتى جاء من بعد هذه المدارس الفقهية الأتباع على التقليد .  بينما ازدهر الاجتهاد عند الشيعة بتأليف كتب الكليني وغيره من بعد الغيبة الكبرى لأن مرويات الشيعة بعد الغيبة كانت جمعا للأحاديث لا تصحيحا لها ، فأثٍرت هذه المؤلفات مادة المؤسسة التعليمية الدينية وتراثها في مجالات البحث والتحقيق ووفرت بيئة مناسبة للاستدلال الفقهي .

وبالمقارنة بين ما جمعه كل من مؤلف (الكافي) للشيخ الكليني ومؤلف (الجامع الصحيح) للبخاري - الأقرب إلى مذهب الشافعي - في عدد الأحاديث المروية ؛ فإن مرويات البخاري وصل عددها إلى (3730) حديثا ، بينما وصل عدد مرويات الكليني إلى (16199) حديثا ، ما جعل باب الرجوع إلى اجتهاد الرأي عند أتباع اتجاه الخلافة واسع الجدل لضيق المرويات ، بينما تميز اتجاه التشيع بعدم حاجته لاجتهاد الرأي لتميزه وانفراده بكثرة المرويات وتغطيتها للحاجة التشريعية . كل ذلك أثرى المؤسسة التعليمية الدينية عند أتباع اتجاه التشيع بمادة البحث والاجتهاد ، خصوصا وأن مؤلفات الشيعة في الرواية كانت جمعا وليست تصحيحا في وقت جمد أتباع اتجاه الخلافة على (الصحيح) باعتباره صحيحا . 

وهكذا تحولت المعاهد والمدارس والمراكز الدينية بعد ذلك إلى تمثيل وزعامة للمذاهب الإسلامية وليس للتعليم فحسب. وتأسيسا على ذلك تبلورت المركزية الدينية والإدارية في شؤون التعليم ووظيفة نشر علوم وفكر المذاهب ، وأسست على ذلك مستويات ومراتب علمية تقدمتها مستويات التمكن من العلوم وآلات الاجتهاد عند الشيعة إلى جانب مستويات التمكن من العلوم كمقدمة لنشرها عند المذاهب الأربعة .  فتطلب ذلك أيضا تشييد مدارس ومعاهد فرعية في مناطق مختلفة في بلاد المسلمين لإعداد المجتهدين والمبلغين ومراكز الاتصال بالمجتمعات الإسلامية لعقد الفتيا والتوجيه الديني .  كما تطلب ذلك أيضا تخريج أعداد كبيرة من الطلاب للوفاء بحاجات الدولة في شؤون القضاء وغيره . وقد ظلت العلاقة بين المؤسسة التعليمية الدينية والدولة محل شد وجذب واستقطاب ونفور تبعا لطبيعة النظام السياسي القائم وعلاقته بالمذاهب . 

فالشيخ المفيد مثلا كان زعيما للمركز الديني للشيعة في بغداد على عهد آل بويه حيث نهضت الحركة العلمية وتطورت بسبب الدور الإيجابي الذي لعبه آل بويه واقترابهم من علوم أهل البيت (عليهم السلام) . 

وظهرت خلال فترة حكم البويهيين مراكز دينية شبيهة بتلك الدور المستخدمة على عهد الأئمة (عليهم السلام) من حيث استقلالها عن المسجد واحتضانها للمناظرات والمباحثات وحلقات الجدل الفكري والعلمي ، لكنها تميزت باحتوائها على الكتب الكثيرة والمتعددة في اختصاصاتها .  وكان من ابرز تلك الدور العلمية  في بغداد في سنة (381هـ): دار علم سابور بن أردشير وزير الحاكم البويهي بهاء الدولة"وقد جمع فيها ما تفرق من كتب فارس والعراق واستكتب تآليف أهل الهند والصين والروم . . وفاضت كتبها على عشرة آلاف من جلائل الآثار ومهام الإسفار"24 ، وظلت هذه المكتبة على هيئتها لمدة سبعين سنة حتى أحرقت على يد طغرلبك في سنة (450هـ).

وإذا ما شئنا وضع المؤسسة التعليمية الدينية في نظام تطورها من حيث التسلسل الزمني ، فإن المدينة المنورة التي شهدت تحول المدرسة الدينية وانتقالها من البيوت إلى المساجد ومن ثم إلى البيوت والمساجد معا إلى أن توسعت وأخذت أشكالها المستقلة بالقرب من المساجد أو بعيدا عنها كجهة أو مؤسسة مستقلة ؛ فإن المدينة المنورة كانت تضم المدرسة والمركز والمعهد الأول الذي استمر في دوره التعليمي والعلمي حتى عهد الإمام الصادق (عليه السلام) .

وفي بداية النصف الثاني من القرن الثاني الهجري ، جاء مركز الكوفة الذي نما واستمر حتى بداية الغيبة الكبرى في النصف الأول من القرن الرابع الهجري (سنة 329هـ). والى جانب هذا المركز التعليمي المهم ظهر مركز (قم والري) في بلاد فارس على عهد آل بويه واستمر في عطائه العلمي حتى القرن الخامس الهجري. وتعد (الري وقم) من المناطق المهمة التي ضمت أتباع اتجاه التشيع حيث شاعت رواياتهم وكثر الرواة بينهم عن أهل البيت (عليهم السلام) منذ عهد الإمام الجواد (عليه السلام). وقد برز الكثير من رجال العلم في هذه المنطقة وكان أشهرهم كل من: الشيخ علي بن إبراهيم القمي وابنه أبي جعفر محمد الصدوق (381هـ) صاحب كتاب (من لا يحضره الفقيه) ، والشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني (329هـ) صاحب كتاب (الكافي) ، وابن الحسن حسن بن محمد بن الحسن القمى‏ صاحب كتاب (تاريخ قم) . 

وبعد الري وقم برزت بغداد في النصف الأول من القرن الخامس الهجري كمركز تعليمي كبير استمر في عطائه العلمي حتى ظهور السلاجقة واضطرار الشيخ الطوسي (460هـ) للانتقال به إلى النجف حيث أسس ما عرف بـ (الحوزة) إثر تقلده للمرجعية بعد وفاة أستاذه الشريف المرتضى (436هـ).

والى جانب حوزة النجف أسست حوزة في حلب بعد أن بعث إليها السيد المرتضى تلميذيه الشيخ حمزة الديلمي (448هـ) المعروف بـ (سالار) ، والشيخ أبي الصلاح الحلبي (447هـ) .  وبعد رحيل الطوسي إلى النجف تأسست حوزة الحلة بزعامة الشيخ ابن إدريس محمد العجلي الحلي (598هـ) .

وبهذا التطور العلمي والانتشار الجغرافي اتسعت رقعة التشيع في بلاد المسلمين ، وانتشرت المجالس والمدارس ودور الكتّاب والمعاهد والمراكز التعليمية الكبيرة لأداء دورها التعليمي لقرون عديدة بدون بديل مؤسسي علمي ومعرفي ، لكنها لم تشهد تطورا مميزا نسبة إلى المدة الزمنية الطويلة التي أمضتها هذه المدارس والدور والمجالس والحوزات والمراكز إلا من حيث تنوع المواد التي أضيفت إلي بعض العلوم البسيطة والمكملة.

وتركز التعليم في هذه الحوزات والمراكز والمدارس والمعاهد على دراسة النص ، وهو ما أنتج الكثير من المؤلفات خصوصا في مجالات الفقه وكذلك الأصول الفقهية بعد ذلك .  كما تخرج عن هذه الحواضر العلمية قضاة وعلماء وفقهاء ، بينما لم تشهد المناهج والأساليب والوسائل التعليمية في قرون التأسيس تطورا وتقدما مشهودا ، وظلت على قدمها وتقليديتها فيما عدا بعض ما شهدته المدارس العثمانية في بعض ولاياتها حيث أسست على نمط حديث وفقا لتطور النظام السياسي بعد تصديق السلطان عبد الحميد على دستور جديد للبلاد .

وظل عهد نشوء مدارس ومعاهد وكليات التبشير المسيحي في الولايات العثمانية في العصر الحديث بديلا سياسيا وتربويا أقامه الاستعمار في مرحلة الضعف والوهن والجمود الذي غلب المؤسسة التعليمية الدينية في العالم الإسلامي .  وكانت المدارس المسيحية الوافدة متميزة ومتطورة في مجالات المناهج والوسائل والأساليب التعليمية ، فارتبط اسمها بالحداثة والتفاعل مع الواقع ، إذ كانت تساهم في تخريج الكادر العلمي الذي كانت تحتاجه السلطنة العثمانية للتصدي لإدارة شؤونها في مختلف المجالات ، وهي السلطنة التي بدأت للتو في تبلورها على النمط الحديث المقارب لنمط الدولة في أوروبا بقيادة سلطة عدد من الأمراء غير الشرعيين وغير المثقفين في غالب الأمر ، بينما صمدت المؤسسة التعليمية الدينية بأنماطها المختلفة على تمثيل التراث العلمي القديم في مناهجه ونصوصه ووسائله وأساليبه ، ما تسبب عن ذلك نزاع وخلاف وتباين في المواقف على الصعد العلمية والاجتماعية والسياسية بين رجال الدين في المؤسسة التعليمية الدينية الرسمية التابعة لمؤسسات السلطنة من جهة ، وبين رجال الدين في المؤسسة التعليمية الدينية المستقلة ، حتى برز رموز الإصلاح وترددت أسماء كثيرة في هذا الشأن ، كالشيخ الأنصاري والسيد محمد حسن الشيرازي والميرزا محمد تقي الشيرازي والشيخ رفاعة الطهطاوي والسيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده والسيد هبة الدين الشهرستاني والطاهر بن عاشور وابن باديس وغيرهم ، حيث وضعوا أمتهم أمام واقع جديد دعا إلى أمرين: إصلاح المجتمع على الصعيد الثقافي والسياسي ، وإصلاح المؤسسة التعليمية الدينية وإعدادها لكي تمثل دور الزعامة .

ب- طليعة الإصلاح المؤسسي 

مع توسع المؤسسة التعليمية الدينية الأولى ودخول الاجتهاد عاملا أساسيا في حياة الأمة عقب انقطاع عهد التشريع الإسلامي ، كانت هذه المؤسسة في حاجة كبيرة وماسة إلى تنظيم وتطوير العلوم الإسلامية ومناهجها ومعارفها ، فضلا عن وضع القواعد للإصلاح والإبداع والتجديد بما يتوافق والمستجدات العلمية.

فالتراث الذي خلفه عهد التشريع عظيم وثري جدا ، وان مبدأ الاجتهاد كان قادرا على إحياء هذا التراث وجعله متفاعلا وحيويا في الحواضر العلمية الدينية ، لكن مبدأ الاجتهاد مر بمنعطفات تاريخية لم تجعله في حال من الاستقرار العلمي ، وذلك لأسباب مختلفة ، بعضها ذاتي وبعضها موضوعي .  وهو الأمر الذي استدعى وجود مبدعين ومصلحين أسسوا لجهود إصلاح وتطوير رافقت الحواضر التعليمية الدينية وعلومها حتى مراحل لاحقة . 

ولعل ابرز ما ميز جهود الإصلاح أنها لم تكن انقلابية كشأن الحركات السياسية أو الاجتماعية التي شهدها العالم الإسلامي خلال القرنيين الماضيين ، بل أنها جهود انطلقت من واقع الجمود ومحل عدم الاستقرار العلمي وتطوره وأسبابه ، ووجدت أن العالم الإسلامي ومؤسسته التعليمية الدينية تعج بمتناقض فكري لا يميز بين ما هو ثابت ويتطلب الثبات وما هو متغير ويتطلب التغيير والتطوير والتحديث في أحيان ومواضع كثيرة.

وقد وجدت جهود الإصلاح والإبداع أن التمكن من وضع أسس الإصلاح التعليمي وفق مناهج سليمة ومناسبة ومواكبة للمتغيرات والتحولات المستجدة لم يكن بالأمر السهل ، سواء بالنسبة إلى مساعيهم الحميدة وما كانوا يمتلكون من مؤهلات قيادية ناضجة ومؤثرة وبرنامج عملي قادر على إخراج ما كانوا يطمحون إليه من أهداف نظرية إلى حالها الواقعي.

لقد ظل الواقع يشير إلى جمود في كل ما كان من شأنه التطور والتغير ، وكان مجتمع العلم في المدارس والمراكز والمعاهد الدينية يرى في هذا الجمود تمسكا بالأصالة والمحافظة على التراث من الاندثار والإندراس ، كما كان يرى في بعض العطاء الفقهي والعلمي قمة ما بعدها قمة ، بحيث لم يترك الأولون للآخرين ما يمكنهم من تقديم الجديد والمزيد . من هنا توقفت آلة الاجتهاد في مختلف الميادين التعليمية الفقهية والعلمية والأدبية وغيرها.

ومن خلال مراجعة مسيرة المادة العلمية المهمة (علم الأصول) - على سبيل المثال - في المؤسستين التعليميتين التابعتين لاتجاهي التشيع والخلافة ، تبرز لنا الكثير من المعالم التي توضح اتجاهي الجمود والتطور واهم أسبابهما فضلا عن الصراع العلمي بين هذين الاتجاهين ، خصوصا وان هذا العلم قد ولد عن مسيرة فقهية نجحت في بناء تراث ضخم بين عصر التشريع وما بعده ، وتميزت بكونها علما إسلاميا خالصا.

(1) التبعية مقتل الإبداع  

في القرنين الخامس والسادس الهجريين بدأت حركة الجمود في الفكر الأصولي لدى اتجاه الخلافة الذي أسس بعد انتهاء عهد التشريع بوفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) مباشرة ، حيث لم تبد المؤسسة التعليمية إبداعا جديدا أو تطويرا لهذا العلم ، ووقفت على التقليد والاستنساخ والتفصيل في التعليقات والشروح  حتى انتهى الأمر بحال العلم في مجال الفقه إلى انسداد باب الاجتهاد بالتزامن مع سيادة المذاهب الفقهية الأربعة لكل من أبى حنيفة والشافعي والمالكي وابن حنبل بفعل تأثير بالغ للنظام السياسي الحاكم آنذاك الذي انتهى إلى وقف العمل بعشرات المذاهب المنتشرة وأطلق العمل بالمذاهب الأربعة حصرا ، فضلا عن تدخل الاتجاه الاجتماعي الكبير والواسع الذي قبل بهذه المذاهب كمسار فقهي مبرئ للذمة كما هي الحال القريبة في عهد دولة الظاهر بيبرس في مصر. وتكفي لإثبات هذه الحقيقة شهادة أبي حامد الغزالي المتوفى سنة (505هـ) ، وهو رجل الدين الكبير الذي مثل اتجاه الخلافة ، إذ تحدث عن شروط المناظرة في البحث ، فذكر منها"أن يكون المناظر مجتهدا يفتي برأيه لا بمذهب الشافعي وأبى حنيفة وغيرهما حتى إذا ظهر له الحق من مذهب أبي حنيفة ترك ما يوافق رأي الشافعي وأفتى بما ظهر له ، فأما من لم يبلغ رتبة الاجتهاد – وهو حكم كل أهل العصر – فأي فائدة له في المناظرة"25. 

وبما أن علم الأصول يظل في حال من النمو مع نمو مادة علم الفقه ؛ فإن جمود الحركة الفقهية أو تضاربها مع مرحلة انتشار المذاهب الفقهية الأربعة كانت له مردودات سلبية على نمو علم أصول الفقه ، ذلك أن علم الأصول هو مجموعة القواعد التي تستخلص من علم الفقه ، وبجمود الفقه استسلمت القواعد لحال الارتخاء .

وقد ظل فقه اتجاه الخلافة في حال من الارتباط العضوي مع النظام السياسي بحكم الأثر الكبير الذي كان يتركه هذا النظام على عامة الناس ، فضلا عن دوره في حركتها الاجتماعية وحاجة النظام السياسي الماسة لكل ما كان له أثر إيجابي في تشريع وتأييد بقائه على سدة الحكم . وكان الفقهاء آنذاك يشكلون قطبا مؤثرا في سير النظام السياسي ، ويحتلون الدرجة الثانية من حيث الترتيب الطبقي للمجتمع من بعد السلطان أو الخليفة. من هنا استظل النظام السياسي بمظلة الفقه والفقهاء وتبادل المصالح والمقاصد مع مذاهبهم وجعل منها جهات لا تنفك عن أنظمته وقوانينه.

وعلى أساس من هذه العلاقة الوطيدة ظل الفقه مرتبطا ومقيدا بدوائر السلطة الرسمية وتقاليدها وبروتكولاتها ، فيقوى بقوتها ويضعف بضعفها . "الأمر الذي يجعل الفقه السني يتأثر بالأوضاع السياسية ويزدهر في عصور الاستقرار السياسي وتخبو جذوته في ظروف الارتباك السياسي .  وعلى هذا الأساس كان من الطبيعي أن يفقد الفقه السني شيئا من جذوته في القرنين السادس والسابع وما بعدهما ، تأثرا بارتباك الوضع السياسي وانهياره أخيرا على يد المغول الذين عصفوا بالعالم الإسلامي وحكوماته"26.

وأما الفكر الأصولي العلمي عند اتجاه التشيع فقد ظل في حال من النمو برغم كونه جاء متأخرا على أول انطلاقة للفقه الأصولي السني بحوالى مائة عام ، فتأثر بمنهجه في البحث لكنه استقل في مادته . 

ولم يكن فقهاء اتجاه التشيع يستمدون دوافع البحث العلمي من حاجات الجهاز الحاكم الذي اعتزلوه ورفضوه حاكما ، إنما كانوا ينظرون في حاجات الناس الذين آمنوا بإمامة علي (عليه السلام) واتبعوا نهج أهل البيت (عليهم والسلام) ورجعوا إلى فقهاء مدرستهم الأولين في حل مشكلاتهم الدينية والتعرف على أحكامهم الشرعية .  من هنا كان فقه اتجاه التشيع متأثرا بنظام وحاجات الناس ولم يكن متأثرا بالوضع السياسي كما يتأثر فقه اتجاه الخلافة.

وربما كانت المؤسسة التعليمية الشيعية أوفر حظا من نظيراتها في اتجاه الخلافة ، لأن أبواب الاجتهاد المفتوحة لدى اتجاههم كانت حاكمة ، على عكس الباب المسدود للاجتهاد عند المؤسسة التعليمية التابعة لاتجاه الخلافة ، لكنها بقيت على جمودها في الكثير من المواد والأساليب والوسائط التعليمية برغم مرور ألف عام على تأسيس بعض مدارسها.

"فمساق الدروس (في النجف على سبيل المثال) محدد ويشمل اللغة العربية والمنطق والدين ، وأما الدروس التي يحق للطالب أن يختار منها فتشمل الفلسفة والفلك والرياضيات ، ولكن هذه العلوم الحديثة لا تزال تعلم في هذه المدارس كما كانت تدرس في القرون الوسطى وبالمضمون والمحتوى ذاتهما"27.

وقد تطورت علوم الفقه والأصول في المؤسسة التعليمية الدينية في العراق ، لكنها لم تكن تنمو في شكل منهجي تعليمي مكتوب متخصص ، بل أنها نمت كتراث علمي مقدس حمل بين طياته أحكام الشريعة الغراء رغم اعتماد هذا التراث على مصادر قديمة جدا يمتد بعضها إلى القرن الثامن الهجري.

ومع تطور بعض المؤلفات في مجال الفقه من حيث التقسيمات المبسطة والمنهجية والمبوبة في محتوى مادتها ، كانت هذه المؤلفات محط رغبة شديدة في سيادتها في المؤسسة التعليمية كمادة للتعليم والتدريس والحفظ ، كما هو الحال بالنسبة لكتاب (الشرائع) .  وبدراسة متأنية لهذه المؤلفات والكتب التي اعتمدت للتدريس خلال تلك القرون يظهر جليا كيف أن تلك المؤلفات والكتب كانت بعمق علمي كبير ومميز ، سواء في الألفاظ والعبارات أو في موضوع البحث والتحقيق ومادتها.

ثم نضجت مادة الفقه"في طريقة الاستلال بعد استقرار المدرسة الأصولية على يد الوحيد البهبهاني ، وذلك بتأليف كتاب (الرياض) للسيد الطباطبائي وتأليف كتاب (الجواهر) للشيخ النجفي وكتاب (مفتاح الكرامة) للسيد العاملي ، ولم يجد له جديد في هذه الحقبة إلا بمحاولة التغيير في طريقة العرض"28

فهذه المؤلفات كانت تمثل بحوثا احتلت قمة المستوى العلمي ومثلت خلاصة وصلت إليها عقول العلماء الكبار في المؤسسة التعليمية الدينية آنذاك ، ما ساهم في جعلها محل اختيار من قبل المدرسين ومحل تفضيل وتوافق من قبل الطلاب أيضا ، سواء لغرض إدراجها في مجال المنهج التعليمي المعتمد أو في ما يؤدي إلى تقوية الحس الفقهي لدى الطالب .  ولم يكن اختيار هذه المؤلفات والكتب لكونها مادة صالحة للتدريس من حيث شمولها على التبويب والتقسيم والمرحلية أو لكونها مبدعة في العرض المنهجي التعليمي ، إنما لأهمية الاستنباط الجديد الذي حوته. وأما في مجال مادة الأصول الفقهية ، فقد"نضج على أيدي أساتذة المدارس الثلاث المعاصرة ، وهي مدرسة العراقي ومدرسة الأصفهاني ومدرسة النائيني التي صبت جميعها في محيط ابرز تلامذتها من أساتذة هذه الحقبة الزمنية. وكل ما جد في مجال أصول الفقه هو التعديل في التبويب والتغيير في أسلوب وطريقة العرض . ولعل كتاب السيد السبزواري (تهذيب الأصول) يعرب عن هذا النضج وبدء طور التغيير للخلوص إلى الخلاصة وطرح الزائد والاقتصار على المفيد"29.

ويقسم السيد محمد باقر الصدر الحركة العلمية لدى اتجاه التشيع في علم الأصول إلى ثلاثة عصور: العصر التمهيدي ، وهو عصر وضع البذور الأساسية لعلم الأصول ، ويبدأ هذا العصر بابن عقيل وابن الجنيد وينتهي بظهور الشيخ (الطوسي). وعصر العلم ، وهو العصر الذي اختمرت فيه تلك البذور وأثمرت وتحددت معالم الفكر الأصولي وانعكست على مجالات البحث الفقهي في نطاق واسع ، ورائد هذا العصر هو الشيخ الطوسي .  ومن رجالاته الكبار ابن إدريس والمحقق الحلي والعلامة الشهيد الأول وغيرهم من النوابغ. وعصر الكمال العلمي ، وهو العصر الذي افتتحته في تاريخ العلم المدرسة الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن الثاني عشر على يد الأستاذ الوحيد البهبهاني ، وبدأت تبني للعلم عصره الثالث بما قدمته من جهود متضافرة في الميدانين الأصولي والفقهي. وقد تمثلت تلك الجهود في أفكار وبحوث لرائد المدرسة الأستاذ الوحيد وأقطاب مدرسته الذين واصلوا عمل الرائد حوالي نصف قرن حتى استكمل العصر الثالث خصائصه العامة ووصل القمة.

ففي هذه المدة تعاقبت أجيال ثلاثة من نوابغ هذه المدرسة: ويتمثل الجيل الأول في المحققين الكبار من تلامذة الأستاذ الوحيد ، كالسيد مهدي بحر العلوم المتوفى سنة (1212هـ) ، والشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى سنة (1227هـ) ، والميرزا أبي القاسم القمي المتوفى سنة ( 1227هـ) ، والسيد علي الطباطبائي المتوفى سنة (1221هـ) ، والشيخ أسد الله التستري المتوفى سنة (1234هـ). ويتمثل الجيل الثاني في النوابغ الذين تخرجوا على بعض هؤلاء ، كالشيخ محمد تقي بن عبد الرحيم المتوفى سنة (1248هـ) ، وشريف العلماء محمد شريف بن حسن علي المتوفى سنة (1245هـ) ، والسيد محسن الأعرجي المتوفى سنة ( 1227هـ) هـ ، والمولى أحمد النراقي المتوفى سنة (1245هـ) ، والشيخ محمد حسن النجفي المتوفى سنة (1266هـ) وغيرهم. وأما الجيل الثالث فعلى رأسه تلميذ شريف العلماء المحقق الكبير الشيخ مرتضى الأنصاري الذي ولد بعيد ظهور المدرسة الجديدة عام (1214هـ) ، وعاصرها في مرحلته الدراسية وهي في أوج نموها ونشاطها ، وقدر له أن يرتفع بالعلم في عصره الثالث إلى القمة التي كانت المدرسة الجديدة في طريقها إليها. ولا يزال علم الأصول والفكر العلمي السائد في الحوزات العلمية الأمامية يعيش العصر الثالث الذي افتتحته مدرسة الأستاذ الوحيد.... وعلى هذا نعتبر الشيخ الأنصاري قدس سره المتوفى سنة (1281هـ) رائدا لأرقى مرحلة من مراحل العصر الثالث وهي المرحلة التي يتمثل فيها الفكر العلمي منذ أكثر من مائة سنة حتى اليوم"30.

(2) سيادة روح التقليد

مني الفكر الأصولي الشيعي بانتكاسة أنتجت جمودا في مرحلة زمنية قدّرت بمائة عام كادت أن توصله إلى حال شبيهة بأوضاع الفكر الأصولي لدى اتجاه الخلافة الذي عرف عنه الجمود والتوقف خارج دائرة الاجتهاد والإبداع . حدث ذلك في مرحلة لاحقة لوفاة الشيخ الطوسي وخلال العصر الثاني (عصر العلم) حسب تصنيف عصور تطور الأصول.

فالشيخ الطوسي الذي تسلم مرجعية الشيعة الإمامية وقاد مسيرتهم من خلال المؤسسة التعليمية في النجف الأشرف عقب انتقاله إليها من بغداد المدمرة خلال كوارث الاجتياح السلجوقي ؛ أقام اتجاها علميا في الأصول الفقهية تميز بالمتانة والإبداع والتطور في وسط علمي حديث التأسيس عُد أفراد طلابه بالمئات وذلك استنادا على موروث علمي تقدمت به مرحلة أستاذيه الشيخ ابن الجنيد والسيد المرتضى .  حتى أن الشيخ الطوسي"وقف على كتاب ابن الجنيد الفقهي واسمه (التهذيب) فذكر أنه لم ير لأحد من الطائفة كتابا أجود منه ولا ابلغ ولا أحسن عبارة ولا ارق معنى منه .  وقد استوفى فيه الفروع والأصول وذكر الخلاف في المسائل واستدل بطريقة الإمامية وطريق مخالفيهم. فهذه الشهادة تدل على قيمة البذور التي نمت حتى أتت أكلها على يد الطوسي"31

وتدل مرحلة الشيخ الطوسي على أنها استفادت كثيرا مما وصل إليه منهج علم الأصول في المؤسسة التعليمية على اتجاه الخلافة حتى رجع إلى الشيخ بعض أتباع اتجاه الخلافة في تفاصيل دروسه وعلومه ، ما يشير إلى أن الطوسي كان قطبا علميا عظيما في عالم المؤسسات التعليمية الدينية بمختلف اتجاهاتها المذهبية  آنذاك.

وبهذه الآثار التي تركها الشيخ الطوسي في هذا العلم كان من الطبيعي أن يعد عند طلابه علما ما بعده علم  وكبير مراجع أهل زمانه ، وهم الذين وصلوا إلى مرتبة الاجتهاد في هذه الحوزة الزاخرة"فله من الطلاب المجتهدين ما يزيد على المائتين ، وله رواد من العامة والخاصة ، يرغبون في علومه"32.

وبعد وفاة الشيخ الطوسي في سنة (460هـ) تولى المرجعية وزعامة المؤسسة التعليمية في النجف أبو علي الحسن بن محمد الطوسي الملقب بـ (المفيد الثاني) ، والمتوفى بعد سنة (515هـ).

ولعمق أثر حب واحترام الشيخ الطوسي في نفوس تلامذته ولما كان له من مكانة علمية كبيرة ومميزة ؛ فرض تقديسه عليهم - بصفته عالما- فرضا ، وبخاصة في مجالات الفقه والحديث ، بلغ حد عدم الجرأة على مخالفة طريقته وآرائه . فقيل: إن كتبه المعروفة في الفقه والحديث لعظم مكانتها خدرت العقول ، وسدت عليها منافذ التفكير في النقد قرابة قرن."وبلغ (قدس سره) من العلم والفضل مرتبة كانت آراؤه وفتاواه تعد في سلك الأدلة على الأحكام ، ولذلك عبر غير واحد من الأعلام عن العلماء بعده إلى زمان ابن إدريس بالمقلدة"33.

وخلال قرن مر على وفاة الشيخ الطوسي لم يقو أحد على بناء منهج جديد أو إقامة بحوث فقهية أو أصولية قادرة على مجاورة أو مجاوزة أو مقاربة التراث العلمي للشيخ الطوسي ، ووصل الأمر بالمؤسسة التعليمية في النجف الأشرف وفي باقي المدارس الأخرى التابعة لنهج هذه المؤسسة إلى حال الجمود عن الاجتهاد برغم النمو المستمر في الفقه .  وكانت هذه الاستمرارية في الفقه تبعا لحاجة الناس إليها خلال قرن من وفاة الشيخ الطوسي تستوجب حضورا مساهما وفعالا في الإبداع أصولا وفقها في إطار المنهج المبدع عند الشيخ الطوسي . وظهر آنذاك أن اتجاه التشيع بدأ يقترب من النهاية الخاتمة التي وصلت إليها من قبل مادتا الفقه والأصول عند اتجاه الخلافة من بعد شيخوخته .

فروح التقليد وإن كانت قد سرت في المؤسسة التعليمية التي خلفها الشيخ الطوسي كما سرت في فقه وأصول المؤسسة التعليمية لاتجاه الخلافة ، إلا أن نوعية الروح العلمية كانت تختلف ، لأن الحوزة العلمية التي خلفها الشيخ الطوسي كانت حوزة فتية لم تستطع التفاعل بسرعة مع إبداع وتجديد الشيخ المتقدمة ، وكان لابد لها أن تنتظر مدة من الزمن حتى تستوعب تلك الأفكار وترتفع إلى مستوى التفاعل معها والتأثر بها على صعيد البحث العلمي .  وروح التقليد هذه كانت مؤقتة بطبيعتها. وأما المؤسسات التعليمية الدينية عند اتجاه الخلافة فقد كانت تعاني شيوع روح التقليد الناشئة عن شيخوختها بعد أن بلغت قصارى نموها وعطائها العلمي  بعد أن استنفذت جهدها ، فكان من الطبيعي أن تتفاقم فيها روح الجمود.

ظل الشيعة المتعبدون بفقه أهل البيت (عليهم السلام) في نمو ديمغرافي مستمر ، وكانت علاقاتهم بفقهائهم وطريقة الإفتاء والاستفتاء تتجدد وتتسع ، ولم يفقد الفقه الأمامي العوامل التي تدفعه نحو النمو ؛ بل اتسع باتساع التشيع وشيوع فكرة الاجتهاد بصورة منظمة. وهكذا نصل إلى أن الفكر العلمي لدى المؤسسة التعليمية التابعة لاتجاه التشيع كان يملك عوامل النمو داخليا باعتبار فتوته وسيره في طريق التكامل ، وخارجيا باعتبار العلاقات التي كانت تربط الفقهاء الشيعة بمجتمعهم وحاجاته المتزايدة . ولم يكن التوقف النسبي له بعد وفاة الشيخ الطوسي إلا لكي يستجمع قواه ويواصل نموه إلى مستوى التفاعل مع الآراء الإبداعية الجديدة.

وأما عنصر الإثارة المتمثل في تطور المؤسسة التعليمية الدينية التابعة لاتجاه الخلافة في مجالاتها العلمية والأصولية بوجه أخص فهو وإن فقدته المؤسسة التعليمية التابعة لاتجاه التشيع نتيجة لجمود المادة الفقهية لدى اتجاه الخلافة وتوقفها على مذاهبها ؛، إلا أنه استعاده في صورة جديدة ، وذلك نتيجة عمليات الانتشار المذهبي التي قام بها الشيعة وتمدد الدعوة التي مارسها علماء الشيعة على نطاق واسع ، وكان بينهم العلامة الحلي وغيره ، فشكل ذلك مثيرا جديدا ومحرضا على الاستمرار في تعميق البحث والتوسع في درس الأصول إضافة إلى الفقه وعلم الكلام. ولذلك نرى نشاطا ملحوظا في بحوث الفقه المقارن قام به العلماء الذين مارسوا تلك الدعوة من فقهاء اتجاه التشيع كالعلامة الحلي.

 (3) أبن إدريس تجربة رائدة

كانت بداية خروج المؤسسة التعليمية الدينية على دور التوقف النسبي قد سُجلت على يد الفقيه المبدع محمد بن أحمد بن إدريس المتوفى سنة (598هـ) ، إذ بث في المؤسسة التعليمية روحا جديدة"وكان كتابه الفقهي"السرائر"إيذانا ببلوغ هذه المؤسسة على مدرسة الشيخ (ابن إدريس) إلى مستوى التفاعل مع أفكار الشيخ (الطوسي) ونقدها وتمحيصها"34.

وكان من المتوقع أن تشهد حركة الشيخ الطوسي العلمية في مجالات الفقه والأصول نموا ظاهرا بعد وفاته ؛ إلا أن التراث الضخم الذي تركه الشيخ كان مادة مثيرة للفكر الإبداعي ولم يكن باعثا على الجمود والخمول والكساد العلمي .  فالشيخ الطوسي عالم وأستاذ منصرف إلى العلم بأقصى اجتهاده وجهده ، أعطى الكثير تأثرا بمن كان قبله كالسيد المرتضى وابن الجنيد اللذان تأثرا بأستاذهما الشيخ المفيد .  وهذا التحول في علوم الشيخ الطوسي نحو الإبداع والتجديد والتطوير كان يستوجب أيضا التأثير في تلامذته الذين وصلوا إلى ثلاثمائة مجتهد .  وبما أنهم من المجتهدين وليسوا من المقلدين ؛ كان هذا من اكبر دوافع ودواعي الإبداع والتطوير والتجديد ، خصوصا أن الشيخ الطوسي كان قدوة المبدعين لا المؤلفين والمفتين فقط ."ولكن الذي يبدو أنهم كانوا يتهيبون السير عليه ، ولعله لأنه كان يعتمد أصول الفقه ، وهو مرتبط في الذهنية الشيعية بالقياس واجتهاد الرأي لأنه المألوف والمعروف عند أهل السنة ، وبخاصة أن أصول الفقه الشيعي تأثر به في طريقة العرض وأسلوب التعبير وتبويب الموضوعات"35.

ولو كان الأمر كذلك لتفاقم انقسام المؤسسة التعليمية الدينية الشيعية ، ولبرزت فيها تيارات علمية ربما كانت مناهضة للتراث العلمي الذي خلفه الشيخ أو متضاربة معه على أقل تقدير .  لكن شيئا من ذلك لم يحدث ، بل بقيت المؤسسة التعليمية على منهجها المستقر على علوم الشيخ وإبداعاته .  ولا يستبعد أن يكون الكثير من تلامذته الذين يعدون بالمئات قد تأثروا بمنهجه الإبداعي وأسلوبه ، ذلك أن العلاقة التي كانت تربط علماء وفقهاء المؤسسة التعليمية الدينية غالبا ما كانت تقترب إلى العلاقة الشخصية في معظم الأحيان ، وأن الأستاذ بطبيعة الحال ينحو إلى تقريب من يراه ذكيا حافظا نبيها من الطلاب ، ويلقي إليه من علومه وأساليبه وتجاربه الخاصة في الحياة العلمية والتعليمية وحتى أسراره الخاصة أحيانا.

ومهما كان من أمر ، فمرحلة الشيخ ابن إدريس الذي نهض بالفقه والأصول إلى حيث الإصلاح والإبداع والتطوير كانت مميزة حيث سار على منهج الشيخ الطوسي واستمر على نهضته العلمية وأخذ عنه شجاعة الطرح والإبداع برغم الموجة الكبيرة والعاتية التي رفضت الأخذ بعلم الأصول لكونه – حسب ظنها –  من إنتاج المؤسسة التعليمية التابعة لاتجاه الخلافة وجاء نسخا عنها.

والمفارقة: أن ابن إدريس كان وليد نهضة خاصة؛ فلم يكن تلميذا مباشرا للشيخ الطوسي ، ولم يكن من طلاب النجف الأشرف أيضا ، ولكنه تأثر بمنهج الشيخ الطوسي عن بعد ومن خلال أستاذه الشيخ العبادي الراوي عن الطوسي بواسطة الياس محمد بن هشام الحائري الذي كان  تلميذا للشيخ العبادي ضمن نواة لحركة علمية ورثت الإبداع والتطوير في حلب عن الشيخين (سالار) و(أبي الصلاح)"فوجود هذه النواة .. وضعف الحركة العلمية في النجف بعد الشيخ الطوسي لما أصابها من ركود في الذهنية الفقهية.. وما يمتلكه الشيخ ابن إدريس من شخصية علمية شجاعة.. هذه كلها مجتمعة عوامل تكاملت فساعدت ابن إدريس على أن يجلب الأضواء نحو الحلة ، ويستقطب العلماء والطلاب من الأقطار الأخرى إلى الحلة ، ويجعل منها المركز العلمي الرئيس للحركة العلمية  ابتداء من القرن السادس الهجري وحتى النصف الأول من القرن التاسع الهجري"36.

وبهذا كان الشيخ ابن إدريس مثالا كبيرا على طريق الإصلاح حيث أخرج المؤسسة التعليمية الدينية من واقع جمود استمر قرابة قرن ، ما يوحي إلى أن حركته الإصلاحية تلك لم تكن محددة في الشأن الفقهي فحسب ، بل أنها أخرجت المؤسسة التعليمية عن طوق التقليد الذي لو استمر بدون إبداع من ابن إدريس لكانت طائفة بأكملها تعيش الشيخوخة في مجالات علومها الدينية المختلفة ، ولكان ذلك يشكل انعكاسا خطيرا على سلوكها الديني وعقائدها وأفكارها وعلاقاتها الاجتماعية ولاندرس تراثها العلمي الضخم الذي أثرى مؤسستها التعليمية.

لقد أبدع الشيخ ابن إدريس في علوم المؤسسة التعليمية ومناهجها ، خاصة في مجال البحث والتحقيق والتعمق في الدليل وحجيته ، وأظهر بنتيجة ذلك ضرورة الأخذ بالعقل كطريق لمعرفة السنة ، فيقول  – بعد نقده جمود الذهنية الفقهية في تلكم الفترة ، عارضا منهجه الفقهي- في مقدمة كتابه (السرائر)"فاعتقادي فيه – أي (السرائر) أنه أجود ما صنف في فنه ، واسبقه لإيفاء سنه ، وأذهبه في طريق البحث والدليل والنظر ، لا الرواية الضعيفة الخبر ، فإني تحريت فيه التحقيق ، وتنكبت ذلك عن الطريق ، فإن الحق لا يعدو أربع طرق: إما كتاب الله سبحانه ، أو سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المتواترة المتيقن عليها ، أو الإجماع أو دليل العقل ، فإذا فقد الثلاثة فالمعتمد في المسألة الشرعية عند المحققين الباحثين عن أخذ الشريعة التمسك بدليل العقل ، فإنها مبتغاة وموكلة إليه.

ويفاد من عبارته: أنه أول من أوضح مكانة العقل في مجال التشريع ، ونادى إلى اعتباره من مصادر التشريع ، وبين مرتبته في تسلسل المصادر الأربعة ، حيث يأتي دور الرجوع إليه عند فقدان الأدلة الثلاثة الأخرى"فكان له الفضل في فتح أبواب التطور للفقه الإسلامي حيث دعا إلى التمسك بالأدلة العقلية ، بينما كان الاعتماد في الأعصار السابقة (قبله) على النص"37.

إن هذا التحول الكبير إلى دليل العقل ، وهذه الشجاعة والجرأة في خرق تقليد علمي دام قرن من الزمان ؛ فرض نفسه على المؤسسة التعليمية وجعلها متقيدة بظاهرة التوسع في التعليقات والهوامش والحواشي والاستنساخ على نصوص الشيخ الطوسي التي تفشت بلا ميل ولا رغبة في البحث والتحقيق أو التجديد و الإبداع ؛ لو سخرت بشكل مناسب في تلكم الفترة فيما يخص منهج المؤسسة التعليمية وأوضاعها الذاتية وعلاقتها بالمجتمع ، لأضحت هذه المؤسسة مثالا متقدما في الزعامة العلمية الواسعة في نفوذها وفكرها الحضاري إلى جانب كونها مثالا للإبداع العلمي.

لقد سجل على الوضع العلمي عقب وفاة الشيخ الطوسي أنه كان وضعا إتكاليا غير مستوعب بعد لما طرحه الشيخ الطوسي من إبداعات وعلوم وبحوث سطرها في مؤلفاته العميقة في معانيها ودلالتها ، وانه وضع عرف بانشغال المؤسسة التعليمية بنزاعاتها الجانبية بين مؤيد ورافض لمنهج الشيخ الطوسي ونتاجه العلمي ، و أن الفرص إذاك لم تكن مواتية بعد للمؤسسة التعليمية للتفرغ للإبداع في كل ما من شأنه دعم مسيرة المؤسسة التعليمية أو استكمال حركة الشيخ الطوسي ، وأن الشيخ الطوسي كان أكثر الناس تحملا لنتائج الخسائر الفادحة التي أصابت الشيعة نتيجة لغلبة السلاجقة وما خلفوه من دمار أتى على التراث الشيعي فاندرست مؤلفاته والعطاء العلمي الذي خلفه أساتذته كالمرتضى وابن الجنيد ، فأراد الشيخ بذلك التعويض عن كل ذلك بهمة عالية وذهنية نشطة وعاملة بأقصى جهودها العلمية ، وما كان الآخرون في المؤسسة التعليمية الدينية سباقين في ذلك .

ولكن ابن إدريس الذي وصف بجرأته وثقته بما يمتلك من ذهنية علمية قد سجلت له دوافعه الإبداعية والإصلاحية المتمثلة في مناهضة الأجواء الجامدة التي عصفت بالمؤسسة التعليمية ومادتها العلمية ، إذ يصف بنفسه الوضع العلمي السائد في الفترة اللاحقة لعهد الطوسي ، بقوله  في مقدمة كتابه (السرائر):"أني لما رأيت زهد أهل هذا العصر في علم الشريعة المحمدية والأحكام الإسلامية ، وتثاقلهم في طلبها ، وعداتهم لما يجعلون ، وتضييعهم لما يعلمون ، ورأيت ذا السن من أهل دهرنا هذا لغلبة الغباوة عليه ، مضيعا لما استودعته الأيام ، مقصرا في البحث عما يجب عليه علمه ، حتى كأنه ابن يومه ، ومنتج ساعته.. ورأيت العلم عنانه في يد الامتهان ، وميدانه قد عطل منه الرهان ، تداركت منه الذماء الباقي ، وتلافيت نفسا بلغت التراقي"38.

لقد أبانت حقبتا الشيخين الطوسي وابن إدريس أن التعليم انتقل من منهج دراسة عبارات النص والتقيد بخلفياتها اللغوية إلى منهج إعداد البحوث والتحقيقات التي اتصفت بالنقل وإعمال العقل والنقد في نفس الآن عبر استخدام النصوص مادة ومصدرا مع الاستفادة من مناهج العلوم العقلية .  كما اتصفت هاتان الحقبتان بنقلة نوعية في منهج التعليم فضلا عن طرقه التي تأثرت بشكل كبير بروح النقد . 

وعرف عن الشيخ الطوسي رائد المؤسسة التعليمية آنذاك نقده لما كسبه من علوم وما ورثه من مؤلفات مختلفة كانت نتاج وحصيلة المؤسسة التعليمية الدينية في بغداد من قبل حوزة النجف الأشرف التي أسسها لاحقا وأضفى عليها نهجا متقدما على نهج بغداد ، آخذا بعين الاعتبار الظروف المستجدة حيث كانت أكثر تهيؤا وقبولا لنتاج منهجه العلمي الجديد.

وأما الشيخ ابن إدريس فشجاعته في مواجهة الظروف التي وصفها بـ (غلبة الغباوة والتقصير في البحث) على الوسط التعليمي الديني وقدرته الفائقة على مواجهة جمود المدافعين والمتقيدين بآراء الشيخ الطوسي وانفتاحه الكبير عليهم ؛ أفادت دلالة على أن ابن إدريس كان ذا حجة قاطعة في دوافع إصلاح المؤسسة التعليمية ، وكان ذا ذهنية علمية مستوعبة لفنون الحوار والنقاش والبحث العلمي الموضوعي برغم جمود بعض مقلدي الشيخ الطوسي على عقلية الاعتداد بالنفس دون علم تفصيلي بما رغبه الشيخ الطوسي من وراء تطويره لمدرسة أستاذيه ابن الجنيد والسيد المرتضى ، ودون فن في النقد والنقاش والحوار الإبداعي الجاد.

فكان من بين الوسائل التي تبناها ابن إدريس: الاهتمام كثيرا بنقاط الاختلاف مع الشيخ الطوسي واستعراض الحجج"التي يمكن أن تدعم وجهة نظر الطوسي وتفنيدها ، وهذه الحجج التي يستعرضها ويفندها إما أن تكون من وضعه وإبداعه يفترضها افتراضا ثم يبطلها لكي لا يبقي مجالا لشبهة في صحة موقفه ، أو أنها تعكس مقاومة المنهج التقليدي السائد  ضد آراء ابن ادريس الجديدة. أي أن المنهج العلمي السائد استفزته هذه الآراء فأخذ يدافع عن آراء الطوسي ، فكان ابن إدريس يجمع حجج المدافعين ويفندها. وهذا يدل على أن آراء ابن ادريس كان بإزائها ردود فعل وتأثير معاصر على المنهج العلمي السائد الذي جر ابن إدريس للاضطرار للمبارزة.

ونعرف من كتاب (السرائر) أن ابن إدريس كان يجابه معاصريه بآرائه ويناقشهم ولم يكن منعزلا في نطاق تأليفه الخاص ، فمن الطبيعي أن يثير ردود الفعل وان تنعكس ردود الفعل هذه على صورة حجج لتأييد رأي الشيخ. فمن مظاهر مجابهات ابن إدريس تلك ، ما جاء في المزارعة من كتاب (السرائر) ، إذ كتب عن رأي فقهي يستهجنه ويقول:"والقائل بهذا القول السيد علوي أبو المكارم بن زهر الحلبي شاهدته ورايته وكاتبته وكاتبني وعرفته ما ذكر في تصنيفه من الخطأ فاعتذر - رحمه الله - بأعذار غير واضحة". كما يلمح في بحوثه إلى ما كان يقاسيه من المقلدة الذين تعبدوا بآراء الشيخ الطوسي وكيف كان يضيق بجمودهم.

وأحيانا نجد ابن إدريس يحتال على المقلدة فيحاول أن يثبت لهم أن الشيخ الطوسي يذهب إلى نفس رأيه ولو بضرب من التأويل ، فهو في مسألة الماء المتنجس المتمم كرا بمثلين (مثلا) يفتي بالطهارة ويحاول أن يثبت ذهاب الشيخ الطوسي إلى القول بالطهارة أيضا ، فيقول:"فالشيخ أبو جعفر الطوسي الذي يتمسك بخلافه ويقلده في هذه المسألة ويجعل دليلا يقوى القول والفتيا بطهارة هذا الماء في كثير من أقواله. وأنا أبين – إن شاء الله - أن أبا جعفر تفوح من فيه رائحة تسليم هذه المسألة بالكلية إذا تؤمل كلامه وتصنيفه حق التأمل وأبصر بالعين الصحيحة واحضر له الفكر الصافي"39.

وكان تلامذة الشيخ ابن إدريس على خلاف تلامذة الشيخ الطوسي من حيث تلقي مناهج العلوم وذهنية الإبداع والتطوير .  فليسوا من الذاهبين إلى التقليد بل إلى الإبداع والتطوير كما أستاذهم ابن إدريس ، وعلى ذلك استمرت الحركة العلمية في النشاط والعطاء الجديد في حلب وغيرها على يد الأجيال المتعاقبة لابن إدريس ، وتميز بعضها بفن جديد في منهج التبويب والتقسيم ، وهو الفن الذي لم يكن دارجا في كتب الفقهاء والعلماء والمؤلفين وكانت كتبهم تتسم بالتعقيد المفرط .  وربما كان ذلك أحد عوامل اقتصار منهج التعليم على شرح العبارة ، وهي طريقة تنسجم تماما مع ما كانت تتصف به تلك الكتب .

ففي السطر أو الفقرة الواحدة تجد عبارات متنوعة المقصد ، حتى حلت كتب تلامذة الشيخ ابن إدريس محل كتب الطوسي أيضا كخطوة إصلاحية في منهج التعليم"وبرز في تلك الأجيال نوابغ كبار صنفوا في الأصول والفقه وأبدعوا. فمن هؤلاء المحقق نجم الدين جعفر بن حسن بن يحي بن سعيد الحلي المتوفى سنة (676 هـ) ، وهو تلميذ من تلامذة ابن إدريس ومؤلف الكتاب الفقهي الكبير (شرائع الإسلام) الذي أصبح بعد تأليفه محورا للبحث والتعليق والتدريس في المؤسسة التعليمية عوضا عن كتاب (النهاية) الذي كان الشيخ الطوسي قد ألفه قبل (المبسوط).

هذا التحول من (النهاية) إلى (الشرائع) رمز إلى تطور كبير في مستوى العلم إضافة إلى تطور منهج المؤسسة التعليمية الدينية في التعليم ، لأن كتاب (النهاية) كان كتابا فقهيا مشتملا على أمهات المسائل الفقهية وأصولها ، وأما (الشرائع) فهو كتاب واسع أشتمل على التفريع وتخريج الأحكام وفقا للمخطط الذي وضعه الشيخ في المبسوط ، فاحتلال هذا الكتاب المركز الرسمي لكتاب (النهاية) في الحوزة واتجاه حركة البحث والتعليق إليه ، يعني أن حركة التفريع والتخريج قد عمت واتسعت حتى أصبحت الحوزة كلها تعيشه"40. كما أن مثل هذا التحول كان ناشئا أيضا من النظرة الصحيحة والسليمة إلى عملية تطور مادة الفقه ذاتها ومصادر نموها وعملية الاستنباط.

تجديد التعليم ضرورة منهجية 

بعد التثبت من الحديث أو الرواية سندا ودلالة كان الفقيه يعمل أدواته وأصوله المعتمدة وملكاته في دائرة من الشروط الواجب إحرازها ، في حركة وجهد معقد عماده السعة في العلم ، وكانت تصدر عن الفقيه في نهاية المطاف الفتوى أو التبيان للحكم الشرعي المطابق للحكم الواقعي في القضية أو الواقعة المراد معرفة رأي الشرع فيها. وتسمى هذه الوظيفة بـ (الاستنباط) . 

وتعد عملية إصدار الفتوى أو تبيان الحكم الشرعي مرحلة أخيرة في سلسلة مراحل يقطعها الفقيه بين المصادر التفصيلية وفق منهج علمي أصولي فقهي متميز يبدع فيه الفقيه بما له من قدرة على توظيف أدوات البحث ومناهج الجرح والتعديل وسبل العلم بمعرفة دلالات النص ، إضافة إلى ما كان يمتلكه من ملكات علمية أخرى تؤهله للوصول إلى الحكم الواقعي في الواقعة المعروضة أمامه من جهة المكلف أو المقلد . فيتلقى المكلف الحكم الشرعي جاهزا في إجابة مختصرة مجردة عن النص الشرعي الذي استمد واستنبط منه الحكم الشرعي ، وفي عملية تظهر الاختصاص في جانب الفقيه وولايته ، كما تظهر نيابة الفقيه عن المكلف في تبيان الوظيفة العملية. ويترتب على هذه العملية نمو في ملكات الفقيه في مجال اختصاصه ، وسعة وتفرغا لدى المكلف في تسخير نعم الله والاستفادة منها أيما استفادة في إطار حكم الفقه ورؤاه.

ويتعلق الحكم الشرعي بمختلف مجالات الحياة ، ويستوعب جل أفعال المقلدين ، بما لا يدع مجالا للحكم بالرأي وفق ضوابط عقلية عند الفقيه .  فما من واقعة إلا ولها حكم واقعي من قبل الله تعالى يُرجع إليه وفق مراحل الاستنباط لتبيانه للمكلف من قبل المرجع الفقيه ، وهو الحكم الذي يعتبر حجة على المكلف وعليه الامتثال لأوامره ونواهيه وما فيه من حث على الأخذ أو الترك ، كما يتعلق الحكم الشرعي بحاجات الناس ومصالحهم حتى تستقيم الحياة وفق نظام رسمه الباري عز وجل .  وفيه أحكام بالحلية وبالحرمة وبالكراهة وبالإباحة ، وفيه بالأمر والنهي . 

وفي الامتثال للحكم بالوجوب تنتظم حياة الإنسان وعبادته ، وفي الحرمة أمر على تجنب كل ما هو فاسد ومفسد ، ويتعلق بالواجب والحرمة الأمر والنهي ، بينما في الكراهة حث على الابتعاد عن كل ما من شأنه النيل من نظام الحياة والعبادة من قريب أو من بعيد ، وفي الإباحة إطلاق في تسخير نعم الله الواسعة الاستفادة منها على أكمل وجه ، وهي تعد أصل الحكم في الأشياء إلا ما خرج بحكم شرعي محلل أو محرم أو مكره . 

ولا يؤخذ في هذا الالتزام في أبعاده الأربعة: الوجوب والحرمة والكراهة والإباحة ، بما يأخذه المنهج الفلسفي بالبحث عن علل الأحكام وأسبابها ومسبباتها ، إلا ما نصت عليه الشريعة من علل أبانتها وأجلتها .  فالأحكام يجرى بها إلى النفاذ تعبدا لأنها حجة ، وتعرف عللها فيما هو منصوص عليه من علة فحسب. وهذه واحد من أهم ميزات علم الفقه عند المسلمين واختصاصهم به دون غيرهم واستقلالهم بمادته ومنهجه.

وتعتبر الفتاوى والأحكام الصادرة عن مصادرها الشرعية التفصيلية بأدوات الفقيه المجتهد نصا مؤديا إلى ضبط العلاقات وتنظيمها ، فهناك العلاقة بين الإنسان وخالقه سبحانه وتعالى ، وهناك العلاقة بين هذا الإنسان ونظرائه من البشر ، إضافة إلى تنظيم علاقة هذا الإنسان مع محيطه وبيئته وكل مكونات هذا الكون .  فتكون مصادر التشريع بذلك شاملة ولم تغادر كبيرة أو صغيرة إلا وأحصته ، ولا مجال للحكم في الأشياء والأشخاص من خلال دائرة أخرى غير دائرة المصادر الشرعية للتشريع .  

وفي إطار هذه الأحكام الفرعية المنظمة والمشرعة يتمكن الإنسان من تغطية منهج تصرفه إزاء كل نعمة مخلوقة بما يرضي ربه سبحانه وتعالى ، فلا يعتدي على شأن من شؤون أهل هذه المملكة العظيمة بالتمرد على النظام ، ولا يتصرف في أمر من أمورها إلا وفق النظام المشرع المحدد لمختلف العلاقات والنظم.

وقد دونت هذه الأحكام كعلم استدلالي منذ نهاية القرن الثاني الهجري ، وتداولها المسلمون برفقة متونها المستمدة من المصدرين الرئيسيين: القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وراجت بينهم  كمادة علمية إسلامية خالصة عرفها المعلم والمتعلم ، العالم المجتهد الفقيه والمكلف المقلد .  ولم يكن لأي علم وافد آخر من تأثير في صناعة هذا العلم وظهوره في واقع المسلمين الذي سادته علوم أخرى وافدة نشأت نتيجة اتساع حركة الفتوح وانتشار الإسلام بين أقوام جديدة ، إضافة إلى حركة الترجمة الواسعة في بعض مراحل الدولة ونشوئها وتطورها.

وشملت المؤلفات المدونة في هذا العلم كل من الأحكام الشرعية العامة في العبادات والمعاملات إلى جانب المتون (النصوص) التي استنبط منها هذا الحكم ، إضافة إلى شروح وحواشي وتفريعات ، فأصبح كتاب الفقه بمثابة التبويب للراويات والأحاديث الشريفة ، ما أدى إلى تضخم هذه المدونات تبعا لتطور الحياة اليومية للمسلمين وتعاطيهم مع النعم التي سخرها الله تعالى لهم .  فمهد ذلك التدوين لحفظ تلك المتون الدينية ومناهج استنباط الأحكام ، حتى تبلورت في هذه الوظيفة الشريفة مصادر التشريع الأخرى ، وامتاز بعد الغيبة الكبرى في عام (329هـ)   كل من"الإجماع"و"العقل"كمصدرين أساسيين إلى جانب القرآن والسنة المطهرة.

وفي عهد الشيخ المفيد (413هـ) وتلامذته: الشريف المرتضى (436هـ) والشيخ الطوسي (460هـ) ومن تلاهم من فقهاء الإمامية ، نهضت حركة التأليف والتدوين لتأخذ بعدا وشكلا وعرضا جديدا يتناسب وعهد ما بعد الغيبة الكبرى وحاجة التقليد عند أتباع أهل البيت (عليهم السلام) من الشيعة الإمامية . فاستخرجت تلك المؤلفات والمدونات بشكلها المختصر الذي لا يتضمن كامل المتن والنص والرواية ، وإنما حوت أحكام العبادات والمعاملات العامة مجردة إلا من بعض الشروح والحواشي والتعليقات والتفصيلات ، كما هو الحال بالنسبة لمؤلف (المقنعة) للشيخ المفيد ومؤلف (جمل العلم والعمل) للشريف المرتضى . 

وقد جرت العادة في بعض هذه المؤلفات على تقسيمها إلى قسمين: قسم أول في أصول الدين وقسم آخر في الأحكام ، كما هو حال المنهج المتبع في تأليف كتاب الشريف المرتضى المذكور. وجرى على هذا النهج كل من الشيخ تقي الدين المعروف بأبي الصلاح (447هـ) في كتابه (الكافي في الفقه) والشيخ الطوسي في كتابه (النهاية) . وكان المراد من ذلك إظهار موقف المكلف بين علمين ، العقائد والأصول ، والفقه والمسائل الشرعية .  ففي أولهما إعمال عقل بلا تقليد مع رجوع إلى النص لتبيان حقائق الإيمان والعقائد وشرح لها وفق رؤى الدين ذاته ، وفي ثانيهما فروع تؤخذ بالتعبد والامتثال وتتضمن الحكم الشرعي الواقعي.

وعلى ما كانت تتصف به هذه المدونات والمؤلفات من اختصار في عرض الفتاوى والأحكام الشرعية على عكس المؤلفات والمدونات الشاملة والمتضخمة التي سبقتها ، إلا أنها لم تكن تتميز بالتقسيم والترتيب والتبويب والتفريع بمثل ما جاء بها بعد ذلك كتاب (شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام) للشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن المعروف بـ (المحقق الحلي 676هـ) الذي جاء متأخرا وأصبح بمؤلفه هذا مثالا للتطور والتجديد وفن في التقسيم ، وفي منهج الكشف عن الأحكام الفقهية وتقديمها للمكلف والمتعلم في سهولة وبساطة في العرض واللفظ والعبارة مقارنة بكتاب (النهاية) للشيخ الطوسي .  فاتخذ كتاب (الشرائع) بديلا عن كتاب (النهاية) في التعرف على الشأن الفقهي العلمي ، وأصبح متداولا بين المكلفين فضلا عن المتعلمين في الحوزات والمراكز الدينية لا لتفاضل بين الكتابين ، بل لما كان يتسم به كتاب (الشرائع) من مواصفات يجد فيها المكلف سهولة في البحث عن إجابة لما كان يبتلى به من موقف يتطلب حكم الله تعالى فيه.

إن هذا التحول العلمي المهم في منهج عرض الأحكام والمسائل الشرعية أصبح ضرورة بالنسبة للمكلف. فإذا حل كتاب (الشرائع) بديلا عن (النهاية) لمواصفات عملية تميز بها هذا الكتاب وكان محل رغبة عند المكلفين والمتعلمين معا فرضتها تحولات اجتماعية وعلمية منهجية ، فإن عرض مادة الفقه ومسائلها الشرعية وفتاواها تظل بحاجة دائمة إلى التجديد والتطوير . خصوصا وان أقسام العبادات في المسائل الشرعية كانت الغالبة في مرحلة من المراحل التطبيقية للفقه بحكم قرب عهد الناس بالتشريع وسعيهم لمعرفة علاقتهم بخالقهم وكيفية عبادته والخضوع له.

وبعد أن ساد الدين وباتت قضايا أخرى في شأن العبادات ذاتها تتسع وتتطلب من الفقهاء تبيان الأحكام الشرعية للمكلفين في سرعة ووضوح ، إلى جانب اتساع مسائل المعاملات في البيع والشراء والتجارة والصناعة والزراعة والعمالة والأجور ؛ فالأمر كان يدعو إلى إعادة النظر في التقسيم والتبويب والعرض من جديد ، وحتى العبارات والألفاظ المستخدمة بين هذه الأحكام بطريقة تزيد في المكلف ميلا إلى البحث الميسر عن الإجابات والإيضاحات إلى جانب انشغالاته في الشأن الحياتي المعقد بنظرياته وأفكاره والسهل جدا في وسائل ووسائط النقل والاتصال.

فالفقه ومادته تتطور يوما بعد يوم وفقا لتطور الحاجات والضرورات الجارية في ذلك العهد الذي اتسم بالتقدم في بعض مجالات الحياة وعلومها ، سواء الإنسانية منها أو الطبيعية أو الرياضية التي كانت تتعامل في أغلبها بالمطلقات وتشهد في كل مرحلة من مراحلها منهج تقسيم وتبويب وتصنيف .  وهناك من العلوم ما تميز بذاته بالتفريع والانقسام في كل مرحلة من مراحل التطور البشري حتى تولدت عنها علوم أخرى استقلت بذاتها ولمست حاجات الإنسان وضروراته. وتحت ظل كل ذلك وجد المكلف نفسه بحاجة ماسة إلى كل ما يمهد الطريق ويسهل سبلها في تداول النعم وتسخيرها على أحسن وجه ، ما يدعو مادة الأحكام الشرعية لاتخاذ عرض واسع جديد مشتمل على التبويب والتقسيم والتفريع في المجالات الفقهية .

ثم تعاقبت الأجيال على الإبداع والتطوير حتى عام ( 1214هـ)  حيث انتهت رئاسة المؤسسة التعليمية في النجف الأشرف إلى الشيخ مرتضى الأنصاري"بعد وفاة الشيخ علي بن الشيخ جعفر ، وصاحب الجواهر ، وصار على كتبه ودراستها معول أهل العلم ، حتى لم يبق أحد  لم يستفد منها ، واليها يعود الفضل في تكوين النهضة العلمية الأخيرة في النجف الأشرف ، وكان يملي دروسه في الفقه والأصول صباح كل يوم وأصيله في الجامع الهندي ، حيث يغص فضاؤه بما ينيف على الـ 400 من العلماء والطلاب. وقد تخرج عليه أكثر الفحول كمثل الميرزا محمد حسن الشيرازي ، والميرزا أبو القاسم صاحب (الهداية) ، وانتشرت تلاميذه، وذاعت آثاره في الآفاق ، وكان من الحفاظ ، جمع  بين قوة الذاكرة وقوة الذهن وجودة الرأي ، حاضر الجواب لا يعييه حل مشكلة ، ولا جواب مسألة"41.

إن هذه الحركة الإبداعية التي تبناها علماء المؤسسة التعليمية منذ عهد الشيخ ابن الجنيد والمفيد والشريف الرضي والطوسي وانتهاء بابن إدريس ومن بعدهم ؛ استطاعت أن تتغلب على الكثير من عوائق الجمود في المؤسسة التعليمية التي فرضت نفسها بسبب غلبة الظروف السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية المحيطة ، أو بسبب تعلق المؤسسة التعليمية الدينية بالقديم من المناهج والمؤلفات التعليمية بلا إعمال فكر مبدع ومجدد. 

وكان على المؤسسة التعليمية الدينية السعي لجعل الإبداع والتجديد أساسا ومبعثا لاستمرار حركة الإصلاح ، سواء في المناهج أو في النظم والوسائط وغيرها بما يدفع إلى مواكبة التطور الإنساني الحضاري الذي يغص بالمستجدات العلمية ويتوقف عليها مصير هذا العالم ، مهما كانت هوية التحديات .  فلربما كانت هذه تحديات سياسية فمن اليسر بمكان مقارعتها من قبل المؤسسة التعليمية ، وحينما تكون المنافسة في مقابل المتمسكين بالقديم والمحافظين على التقليد الجامد فذلك كان التحدي الحقيقي .  من هنا تمسكت جهود الإصلاح والتجديد منذ عهد ابن الجنيد وتلامذته حتى عهد الشيخ الطوسي ثم عهد ابن إدريس بمشروع التجديد في مناهج دراسات المؤسسة التعليمية ، برغم ما كان يكتنف هذا التجديد من مخاوف كان مبعثها تحدي التقليديين والمحافظين ، فأقاموا الإصلاح والتطوير وتجاوزوا تلك التحديات والعقبات الصعبة جدا بتفوق قل نظيره بلا أي مساس بالثوابت والتقاليد العلمية.

وفي معرض تقسيم عصور العلم في المؤسسة التعليمية نجد أن عصر الكمال العلمي هو العصر الذي افتتحه الشيخ الأنصاري في علم الأصول ، ثم تركزت العلوم بعد ذلك في نواحي مختلفة لتشكل عبئا كبيرا على حافظة الطالب من جديد دون أن يكون هناك منهج جديد مستوعب لطرق التعليم ومناهجه الحديثة .  وظلت العلوم الدينية تراوح في مكانها ، وتتكئ على ما تراكم من علوم قديمة أنتجت أو جددت أو طورت حتى عهد الشيخ الأنصاري دون إبداع أو تطوير أو تجديد في المنهج والوسائط إلا ما ندر من أحوال عند بعض العلماء المصلحين في ظواهر فريدة .

فلابد من دراسة وافية للمناهج والوسائل والوسائط التعليمية في المؤسسة التعليمية الدينية ومعرفة نواقصها ومحل قصورها ، ونقدها عبر منهج يضع البدائل العلمية المناسبة ويستفيد من تجارب الإصلاح الماضية ومؤداها. وقبل كل ذلك لابد من دراسة الظروف المعاصرة التي واجهتها المؤسسة التعليمية الدينية وأصبحت جزء من معادلاتها وساهمت إلى حد كبير في نشوء نهضة علمية جديدة تولدت عن جهود ورموز إصلاح وتجديد اعتمدت فكرة تجديد المناهج وتطوير الدراسات في المؤسسة التعليمية. على ألا نغفل حقيقة مرة راهنة أفادت: أن مستوى الرفاه في عصرنا الراهن  وفر الكثير من سبل  ومناهج التجديد العلمي والتعليمي وأدواتهما لكن نتاج الحوزة العلمية ظل علي حال تراجع كبير على صعيد نوعية المتخرجين ومستوياتهم العلمية إذا ما عقدنا وجه مقارنة مع المستوى العلمي الذي كانت تخرجه حوزات ومدارس الأقدمين التي كانت تفتقد إلى أبسط وسائل الرفاه.

وإذا ما أضفنا إلى كل ذلك تصدي الحوزة العلمية إلى الشأن السياسي وتفرغ الكثير من علماء الدين إلى المشاركة السياسية قبل أن ينتهوا إلى المستوى العلمي الذي يؤهلهم لممارسة مثل هذا الدور ، فضلا عن غياب الضوابط والمعايير المنظمة التي من شأنها تحديد مستوى الكفاءة في فن إدارة اللعب السياسية الحديثة أمام نظم سياسية لها من الخبرة ما يستدعي الاستعداد الكبير  وأخذ الاحتياطات اللازمة ؛ فإن الحوزة العلمية باتت اليوم تعاني تراجعا خطيرا سيلقى بظلاله على الوضع الاجتماعي برمته ؛ ما يستوجب النظر إليه بحكمة وروية ومعالجته بما يعيد لهذه الحوزات هيبتها وعلميتها ومكانتها في نفوس الناس.

 

المصادر

----------

 - قم المقدسة رائدة الحضارة . السيد محمد الشيرازي . ص13

2- الشيخ زين الدين العاملي . منية المريد في آداب المفيد والمستفيد . ص 106

3- علي البهادلي . الحوزة العلمية في النجف الأشرف ص24 . عن تاريخ التربية الإسلامية . شلبي . ص68

4- المجلسي . بحار الأنوار . ج46 . انظر  (الفصول المختارة)  للمفيد . ص43 .

5- النجاشي . الرجال . ص10 .

6 -القمي . من لا يحضره الفقيه ،  ج4 . ص272

7- النجاشي . الرجال . ص10-11

8- المصدر السابق . ص10-11

9- الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية م1. ص33

10- الحوزة العلمية في النجف . ص26

11- انظر (المفيد . الفصول المختارة ) . ص31

12- الكليني . الكافي ج2 ص 294 .

13- الطوسي . الفهرست . ص136-137 .

14- المصدر السابق . ص 64

15- انظر"أمالي السيد المرتضي".

16- الحوزة العلمية في النجف . ص28 . عن تاريخ التربية الإسلامية ،  احمد شلبي .م ص113

17 - أصول المدرسة في الإسلام . مجلة الفكر العربي ع 20 آذار.1981

18- علي البهادلي النجف . جامعتها ودورها القيادي . ص114 .

19 - الحوزة العلمية في النجف  . ص33

20 - نفس المصدر السابق . ص32

21 - وفيات الأعيان . ج3 . ص 313-314 .

22- من لا يحضره الفقيه . ج . 1. ص 222

23 -  بحار الأنوار . ط1 . مجلد2 . ص189 .

24- حسن الأمين . أعيان الشيعة . ص 159  

25- السيد محمد باقر الصدر . دروس في علم الأصول مع المعالم الجديدة . ص74

26- نفس المصدر السابق . ص74-76

27- عبد الله النفيسي . دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث . ص51

28- الجامعة الإسلامية . العدد الأول . كانون الثاني 1994. ص197-198

29- نفس المصدر السابق . ص197-198

30- دروس في علم الأصول مع المعالم الجديدة . ص92-94

31- نفس المصدر السابق . ص 67

32- انظر مقدمة (تهذيب الأحكام) . الطوسي . ص31-34

33- د . عبد الهادي الفضلي . تاريخ التشريع الإسلامي . ص333-343

34 - دروس في علم الأصول مع المعالم الجديدة . ص74-76 .

35- تاريخ التشريع الإسلامي . ص341-342

36- تاريخ التشريع الإسلامي . ص342 .

37- نفس المصدر السابق . ص287-288

38 - نفس المصدر السابق . ص341-342

39-  دروس في علم الأصول مع المعالم الجديدة . ص78-79

40 - نفس المصدر السابق . ص80-81

41- محمد جواد مغنية . مع علماء النجف الأشرف ،  ص89 ،  عن السيد الأمين في أعيان الشيعة ج48 ص44

 

 

طباعة : نشر:
 
يرجى كتابة التعليق هنا
الاسم
المدينة
التعليق
من
رمز التأكيد Security Image
 
جميع الحقوق محفوظة لشبكة النعيم الثقافية © 2003 - 2024م