قالوا

 يعيش الجميع اليوم عصر الثورة المعلوماتية التي تنتشر فيها الأفكار و المعلومات بسرعة و سهولة من و إلى أي بقعة من بقاع العالم، و لكن ما فائدة هذا الكم الهائل من المعلومات في ظل هيمنة رأي واحد و فلسفة واحدة على نوعية هذه المعلومات، و أعني بذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي تعكس بمثل هذه الأفعال حقيقة العالم الذي تمثله و تريد في نفس الوقت.

الأستاذ علي السكري
من الذي صام؟ الدرازيون أم النعيميون؟   |    في ذمة الله الشَّابة زهراء عبدالله ميرزا صالح   |   ذمة الله تعالى الحاجة جميلة حسن عبدالله    |   على السرير الأبيض الحاج خليل إبراهيم البزاز أبو منير    |   برنامج مأتم الجنوبي في ذكرى ولادة السيدة الزهراء    |   في ذمة الله حرم الحاج عبدالله سلمان العفو (أم ياسر)   |    في ذمة الله الطفلة زهراء جابر جاسم عباس   |   نبارك للأخ الطالب محمد حسن علي ثابت حصوله على الماجستير في إدارة الأعمال    |   رُزِقَ الأخ عبدالله علي آل رحمة || كوثر || 12/12/2021   |   دورة تغسيل الموتى    |   
 
 الصفحة الرئيسية
 نبذة تاريخية
 أنشطة وفعاليات
 مقالات
 تعازي
 شخصيات
 أخبار الأهالي
 إعلانات
 النعيم الرياضي
 تغطيات صحفية
 ملف خاص
 خدمات الشبكة
 المكتبة الصوتية
 معرض الصور
 البث المباشر
 التقويم الشهري
 أرسل خبراً
 اتصل بنا
 
مقالات الأستاذ حسين المحروس
 
جِبابة العُرس.. جِبابة الحزن .... سواد الأمكنة .. طقوس الزعفران
حسين المحروس - 2007/02/03 - [الزيارات : 8052]

                                         جِبابة العُرس.. جِبابة الحزن  

                         سواد الأمكنة .. طقوس الزعفران 

        

     

في مأتم النساء وقفتْ امرأةٌ، تشدّ عباءتها وتخصّرها، وتعدّ ماء الزعفران بينما تتوافد النسوةُ تباعاً، ومعهن دموع ساخنة على مصرع لن يهدأ حتى تُسْكَبُ عليه دموعُ نساء العالم كلّه. كلّما تهدلت عباءتها شدّتها، وأوثقتها أسفل إبطها الأيمن وخيوط الزعفران ترمي لونها بهيجاً في ماء لا يهدأ.. الزعفران يجمع النساء.. الزعفران يجمع البكاء.. تملأ المرأة كوباً معدنياً كبيراً بالزعفران.. ترفعه ثمّ تعيد سكبه بهدوء، مثل نار تدخل في نار وليس ثمّة هواء غير النَفَس، والزبد الأصفر. كانت أكثر النساء صمتاً في المأتم، وأكثرهن براعة في صنع ماء الزعفران. كلّما هَدأتْ خيوطُ الزَعفران حَرَّكَتها، حتى ترمي ثقلَ لونها كلّه في الماء. فلّما ذاب بعض الثلج، وتعرّق إناء الزعفران الفضي، وضعت يدها اليسرى ببطء على حبات العرق الباردة ثمّ مسحت بها وجهها ورقبتها وصدرها، ومررتها على ثيابها، بللت خمارها، صلت على محمد وآل محمد، ثمّ تمتمت بكلمات، وعيناها تلمعان بدمعة توشك أن تهبط.

 
كنتُ أروح وأجي. أرى كلّ شيء. أتفحص وجوه النسوة. أحفظها مثلما أحفظ أسماءهن بأسماء أولادهن: أم عبدالنبي، أم حسن، أم عيسى، أم علي، أم حسين، أم فاضل، إلا جارتنا التي تنتسب إلى رسول الله، لا يقال لها إلا ‘’السيدة’’. لم يكتمل الحضور بعد، والنار التي أشعلتها أم كريم قبل ساعتين تكاد تستوي. المأتم - قبل أن ينعقد - أحاديث. تتلو السيرةُ السيرةَ. يوميات نساء تعبن من واجبات لا تنتهي. وحده المأتم للتنفيس. البكاء فيه على كلّ شيء. قالت لي امرأة يوماً ‘’سأذهب إلى مأتم النساء أبكي الواقعة.. أبكي واقعتي أيضاً’’ سألتها متى يبدأ البكاء على واقعتك أنتِ؟ فقالت ‘’حين يصبح طعم دموعي أقل ملوحة’’.

 
كان المأتم قد أوشك على الابتداء. ملأتْ المرأةُ أكواباً زجاجيةً بماء الزعفران وراحتْ تقدّمها للنساء. قالت المُلاَّية بِنت علي بن حسن التي تحفظ من الحكمة الكثير:

 ‘’ما أهلك النساء إلا الأصفران: الذهب، والزعفران’’

 
الحديث

 سيبدأ المأتم الآن. أُشير إلى المرأة التي كانت تقرأ مجالس من كتاب ‘’المنتخب في جمع المراثي والخطب’’ بالتوقف داعين لها بأن يُطيّب الله أنفاسها. وهو كتاب من جمع وتأليف فخر الدين الطريحي (979-1087هـ) وضعه في 20 مجلسا، في كلّ مجلس أبواب. يقرأه المتعلم، ويلحّن قصائده والمقاطع الشعرية بعد أن يختم حفظ القرآن الكريم مباشرة عند معلم القرآن. يُقرأ ولا يحفظ. يسمونه أيضاً ‘’الفخري’’، وهو الاسم الأكثر شهرة من ‘’المنتخب’’.

 
الكلام حين القراءة الجهورية في ‘’الفخري’’ غير ممنوع بشرط أن لا يرتفع الصوت. قد تبكي بعض النسوة حين يصغين لرواية الواقعة فيه، وحين تكون للقارئة منه القدرة على فرض صوتها وحسن قراءتها، وروعة تلحينها للشعر فيه. الكتاب مقسّم إلى مجالس لا يبدأ مأتم حسيني عند الرجال والنساء إلا به، ويسمح لأيّ رجل أو امرأة يحسنان القراءة بأن يقرآ فيه على الحضور. وهي مناسبة للتدرب على القراءة أحياناً. وإذا أجاد شخص القراءة فيه وتخصص يقال ‘’فلان أفضل قارئ حديث’’. حدث ذلك عند الرجال أكثر من النساء فاحترف بعضهم قراءة الحديث وصار يُطلب من خارج الحي الذي يسكن فيه، مثل الحاج حسن المؤذن رحمه الله.

 هذه المرحلة الأولى من الطقس الحسيني يسمونها ‘’الحديث’’. يقولون ‘’بدأ الحديث’’ و’’فلانة بدأت الحديث’’ أي قرأت في ‘’الفخري’’، وما سوف يليها يسمونها ‘’القراءة’’ وهي قلب المأتم، أو المجلس. يقولون ‘’قرأ الملا’’ و’’قرأت الملاية’’. قد ترسل أمٌّ طفلتها ترى المأتم في أيّ طقس هو فتعود تخبرها بأنهن ‘’يقرأن في الحديث’’، وأن المأتم سوف يمتلئ بعد قليل.

 تبدأ المرأة بقراءة الحديث عندما يتجاوز عدد النساء خمس في المأتم ‘’اعلموا أيّها الأخوان: إنّ نفثات الأحزان إذا صدرت عن زفير نيران الأشجان فرّجت بعض الكروب عن الواله المكروب، والدموع الهِتان إذا أسبلت عن مقرَّحات الأجفان، فليس ذلك المدّ المصبوب ما يجده المتيم المتعوب، فليلبس كل واحد منكم شعار أحزانه، وليتجلبب بجلباب كآبته وأشجانه..’’ تمدّ في صوتها إذا استلزم ذلك، وتكون القراءة هادئة جداً فإذا ما تعبت تقوم امرأة أخرى بمساعدتها من موضع انتهائها. تتسابق القارئات في إجادة قراءة الحديث، وستكون فاطمة بنت عيسى أعلاهن صوتاً ‘’لما قتل الحسين بن علي جعل جواده يصهل ويحمحم ويتخطى القتلى في المعركة واحداً بعد واحدٍ، فنظر إليه عمر بن سعد فصاح بالرجال خذوه وآتوني به، وكان من جياد خيل رسول الله.. فتراكضت الفرسان إليه فجعل يرفسُ برجليه ويُمانع عن نفسه ويكدمُ بفمه، حتى قتلَ جماعةً من الناس ونكَّسَ فرساناً عن خيولهم ولم يقدروا عليه. فصاح ابن سعد ويلكم تباعدوا عنه ودعوه لننظرَ ما يصنع، فتباعدوا عنه، فلمّا أَمِنَ الطلبَ جعل يتخطى القتلى ويطلبُ الحسين بن علي حتى وصل إليه، جعل يشمُّ رائحته ويقبله بفمه ويمرّغ ناصيته عليه وهو مع ذلك يصهلُ ويبكي بكاء الثكلى حتى أعجبَ كلَّ مَنْ حضر، ثمّ انفلتَ يطلبُ خيمة النساء وقد ملأ البيداء صهيلاً..’’.

 يتنــقل ‘’الفخري’’ بين أيدي القارئات بينما تتوافد النسوة إلى المأتم تباعاً. ثمّة أماكن وزوايا مخصصة لنساء بعينهن ولا يجوز لأحد أن يسبقهن إليها حتى لو تأخرن في المجيء. تدخل البصيرة ‘’بنت هاشم’’ فتأخذها أم كريم إلى مكانها. تتحسّس بنت هاشم المكان فيتأكد لها أنه هو. يأخذ المكان شكل ورائحة، وسيرة الجالسة فيه. يصبح للمكان وجه إذا رحلت صاحبته بقي. الأمكنة لا ترحل.

 
المْرد

 تتوقف قراءة الفخري للمجلس المقبل. تتوقف قراءة الحديث. تبدأ قراءة ‘’القصيد المجالسي’’ وهي قصيدة في المناسبة المخصصة لذلك اليوم أو الليلة. بعدها تبدأ امرأة قادرة على القراءة وتحسنها بقراءة ‘’الرواية’’ وهي القصة. تدخل عليها ملاية بقراءة أبيات حسينية قصيرة يسمونها ‘’المْرد’’. و’’المْرَد’’ شعر عامي باللهجة الدارجة تقرأ الملاية البيت الأوّل من القصيدة مرّة واحدة فقط ولا تعيد قراءته. سيكون على النساء الحاضرات مهمة حفظ البيت الثاني، وسوف يرددنه كلّما أنهت الملاية أربعة أبيات من الشعر ينتهي البيت الرابع منها بقافية البيت الأوّل الذي قرأته مرّة واحدة فقط، ويسمينه ‘’الكسرة’’. وهكذا يمضي ‘’المرد’’، وهكذا سُمي لكثرة ترديد النسوة للبيت الذي حفظنه.

 
وقد تدخل امرأة بقراءة شعر يسمونها ‘’اللطمية’’ بشرط أن تتفق مع الحدث المروي في الرواية. يتوقف ‘’المرد’’ فتواصل امرأة أخرى في قراءة الرواية. تستمر النساء القارئات في فعل ذلك حتى انتهاء الرواية. تضرب النساء النائحات على دورهن لطما خفيفاً، وعند الكسرة يصفقن بأيديهن مرددات ‘’واحسين واحسين’’.

 
جبابة الحرب

 وبعد اتفاق قد نظمته الملاية بنت علي بن حسن قبل بدء المجلس، ونظمت الأدوار فيه ووزعتها على الملايات الصغار معها تقف بهيبتها لتقرأ ‘’النعي’’. تسوي ردائها المطرز أفقياً قبل ذيله باللون الأحمر الماروني من الطرف إلى الطرف. امرأة كلّها صمتٌ. لم أرها تبتسم قطّ. وجه أسمر. نظارة طبية من ‘’سنو’’ بإطار أسود. وما عن تبدأ ‘’النعي’’ حتى تلو جبابة الحرب لا جبابة العرس. النساء يملن إلى تسميتها بـ ‘’الرنّة’’ بدلاً من الجبابة وتكون فيها حركة اللسان من الأعلى إلى الأسفل، وفي جبابة العرس ‘’الزغروتة’’ تكون حركة اللسان من أفقية من اليمين إلى الشمال. بهذا يكون الصوت في جبابة الحرب ‘’الرنّة’’ أقل انخفاضاً من جبابة العرس.

 تستعمل النساء جبابة العرس ‘’الرنّة’’ في طقس آخر هو الدعوة إلى عقد مأتم نسائي على الإمام الحسين. وهذا النوع من الإعلام يستخدم في المجالس غير المعتمدة غالباً، إذ لا تعرف النساء مواعيد انعقادها إلا بهذه ‘’الرنّة’’. تقف صاحبة الدعوة خارج باب بيتها. تطلق ‘’الرنّة’’ في أكثر من اتجاه. تعرف النساء جيداً أنّها جبابة حرب لا جبابة عرس. ينتشر الخبر بينهن. ينعقد المجلس.

 جبابة الحرب ‘’الرنّة’’ تسمع في جموع النساء أكثر عندما يمرّ موكب زفاف القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب بزيّه الأخضر في اليوم الثامن من الحرم الذي خُصص - من باب التنظيم فقط لا التأريخ - لمقتل هذا الشاب في يوم زفافه إلى عروسه سكينة ابنة الحسن بن علي. الموكب عرس، والجبابة حرب.

 
النعي

 تقف الملاية شيخة بنت علي بن حسن الماحوزي لتقرأ ‘’النعي’’. لا أحد يناديها باسمها هذا، ويكاد الرجال لا يعرفون هذا الاسم. هي الملاية بنت علي بن حسن فقط. عندما يتدلى من يدها منيل أسود طويل يعينها على منع نزول العرق في العينين، ويشرب من دموعها الكثير. تبدأ في قراءة ‘’النعي’’ بإطلاق آهة واحدة طويلة يضج المأتم لها: آآآآآآه.. ثم تقرأ ثلاثة أو أربعة أبيات حسينية ممّا تحفظه من شعر، أو ممّا ألّفته هي. تقول ابنتها الملاية زهرة بنت مكي عيسى آل نوح (75عاما) ‘’كانت أمّي تقرأ وتكتب الشعر في الرثاء وغيره’’. النعي هو قصيدة حسينية تختارها الملاية من كتاب غالبا ما يكون مشهوراً. تقسم القصيدة، أو النعي إلى ثلاثة أقسام أو أربعة حسب طول القصيدة، لكل قسم لحن مختلف يسمونه ‘’طريقة’’. وهي ألحان معروفة تنتقل من ملاية إلى أخرى جديدة عبر التدريب. تجعل الملاية اللحن الأوّل ‘’الطريقة’’ خفيفاً وهادئاً. تقول معلمة اللغة العربية منى المحروس ‘’إنّه مقدّمة تشبه بثَّ روح الحماس في النساء، وتمهّد للطريقة الثانية أو اللحن الثاني وفيه ترفع الملاية من نبرة صوتها وتزيد من حرارة المجلس، وهنا يكون بكاء النساء أكثر ويدخل المجلس مرحلة جديدة حتى دخول الطريقة الثالثة وهي الأعلى والأكثر حماساً ونشيجاً وبكاء حتى انتهاء النعي’’.

 
مرد الدور

 بعد ‘’النعي’’ يأتي ‘’مرد’’ آخر يسمينه ‘’مرد الدور’’. وفيه تقف ملايتان متقابلتان بينهما مسافة مترين تقريباً يتبادلان الأمكنة في قراءة النعي كلّما وصلت الملاية إلى ‘’الكسرة’’. أي كلما انتهت من قراءة أربعة أبيات تقريباً تكسرها بالبيت الرابع الذي تتفق قافيته مع البيت الذي حفظته النساء، وصرن يرددنه بعد ‘’الكسرة’’ هنا تتبادل الملايتان الأدوار والأمكنة في حركة تعلمتا عليها جيداً فلم تعودا تلتفتان إليها ساعة الحركة. وفي ‘’مرد الدور’’ تقف كل نساء المأتم ولا يجلسن حتى ينتهي.

 
الشاوش

 ينتهي المجلس بالدعاء والابتهال إلى الله سبحانه وتعالى. لكن هذا الترتيب قد يختلف في مناسبات غير العشرة الأولى من المحرم. كما أن طقوس القراءة في العشرة الأولى من المحرم تتنوع وتختلف. فكثير ما تلجأ بعض مآتم النساء إلى قراءة ‘’الشاوش’’ في الليلة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة من المحرم. و’’الشاوش’’ يعني أن تقرأ الملاية أربعة أبيات مثلا من قصيدة فصيحة غالباً تتبعها ملاية أخرى بقراءة ‘’نعي قصير’’ لا يتجاوز ستة أبيات وينتهي. هذا ‘’الشاوش’’ ترتبه وتوزع أدواره الملاية ‘’القعدية’’ أي التي صار بينها وبين صاحبة المأتم ‘’عقد’’ إلزامي بالقعود والتواجد في مأتمها، في وقت متفق عليه في أيام وليالي المناسبة ولا يحقّ لها التعاقد أو القعود في مأتم نساء آخر في هذا التوقيت. تكون مخصصات الملاية ‘’القعدية’’ أكثر من الملاية العادية. كانت بنت علي بن حسن ملاية ‘’قعدية’’.

 ينتهي المجلس. تدور امرأة بالماء وأخرى بماء الزعفران البارد. تعود النسوة لسرد يومياتهن. يسألن عن أحوال النسوة اللواتي تخلفن عن الحضور. تلبس الملاية بنت علي بن حسن مداسها الأسود العراقي وتغادر. ينفض جمع السواد فلا يبقى غير رائحة الزعفران وذكرى واقعة كأنّ أجساد ضحاياها هدأت للتو.

 

 

 

طباعة : نشر:
 
يرجى كتابة التعليق هنا
الاسم
المدينة
التعليق
من
رمز التأكيد Security Image
 
جميع الحقوق محفوظة لشبكة النعيم الثقافية © 2003 - 2024م